قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾؛ يعني آدمَ وذريَّتَهُ. واختَلَفُوا في معنى الخليفة، فروي: أنَّ رَجُلاً سَأَلَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَكَعْباً وَسَلْمَانَ: مَا الْْخَلِيْفَةُ؛ وما الْمَلِكُ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ: (مَا نَدْرِي) وَقَالَ سَلْمَانُ: (الْخَلِيْفَةُ: هُوَ الَّذِي يَعْدِلُ فِي رَعِيَّتِهِ وَيَقْسِمُ بَيْنَهُمْ بالسَّوِيَّةِ وَيُشْفِقُ عَلَيْهِمْ شَفَقَةَ الرَّجُلِ عَلَى أهْلِهِ وَالْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ؛ وَيَقْضِي بِكِتَاب اللهِ تَعَالَى). فَقَالَ كَعْبٌ: (مَا كُنْتُ أحْسَبُ أنَ أحَداً يُفَرِّقُ الْخَلِيْفَةَ مِنَ الْمَلِكِ غَيْرِي؛ وَلَكِنَّ اللهَ مَلأَ سَلْمَانَ عِلْماً وَحِلْماً وَعَدْلاً). وروي أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ لِسَلْمَانَ: أمَلِكٌ أنَا أمْ خَلِيْفَةٌ؟ قَالَ سَلْمَانُ: (إنْ أنْتَ جَبَيْتَ أرْضَ الْمُسْلِمِيْنَ دِرْهَماً أوْ أكْثَرَ أوْ أقلَّ؛ وَوَضَعْتَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ!! فَأَنْتَ مَلِكٌ. وَإنْ أنْتَ فَعَلْتَ بالْعَدْلِ وَالإنْصَافِ فَأَنْتَ خَلِيْفَةٌ) فَاسْتَغْفَرَ عُمَرُ رضي الله عنه. وروي أنَّ مُعَاويَةَ كَانَ يَقُولُ إذَا جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ: (يَا أيُّهَا النَّاسُ إنَّ الْخِلاَفَةَ لَيْسَتْ بجَمْعِ الْمَالِ وَلاَ تَفْرِيْقِهِ؛ وَلَكِنَّ الْخِلاَفَةَ الْعَمَلُ بالْحَقِّ؛ وَالْحُكْمُ بالْعَدْلِ؛ وَأَخْذُ النَّاسِ بأَمْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ﴾؛ أي يَعصِيكَ فيها؛ ﴿ وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾؛ أي نُبَرِّيك من السُّوء ونُصَلِّي لكَ ونطهِّرُ أنفسَنا لكَ. وَقِيْلَ: اللامُ في ﴿ نُقَدِّسُ لَكَ ﴾ زائدةٌ؛ أي نقدِّسُك. وقُوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾، أي أعلمُ أنه سيكون فيهم أنبياءٌ وقومٌ صالِحون يسبحُون بحَمْدِي ويقدِّسُونَ لِي ويطيعونَ أمْرِي. وروي: (أنَّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ الأَرْضَ جَعَلَ سُكَّانَهَا الْجِنَّ بَنِي الْجَانِ؛ وَجَعَلَ سُكَّانَ السَّمَاوَاتِ الْمَلاَئِكَةَ؛ لأَهْلِ كُلِّ سَمَاءٍ عِبَادَةٌ أهْوَنُ مِنَ الَّتِي فَوْقَهَا، وَكَانَ إبْلِيْسُ مَعَ جُنْدٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا؛ وَكَانَ رَئِيْسُهُمْ واسْمُهُ عَزَازيْلُ. فَلَمَّا أفْسَدَتِ الْجِنُّ بَنِي الْجَانِ الَّذِيْنَ سَكَنُواْ الأَرْضَ فِيْمَا بَيْنَهُمْ وَسَفَكُواْ الدِّمَاءَ وَعَمِلُواْ الْمَعَاصِي بَعَثَ اللهُ إلَيْهِمْ إِبْلِيْسَ مَعَ جُنْدِهِ؛ فَهَبَطُواْ إلَى الأَرْضِ وَأجْلَواْ الْجِنَّ مِنْهَا؛ وَألْحَقُوهُمْ بجَزَائِرِ الْبحَار؛ وَسَكَنَ إِبْلِيْسُ وَالْجُنْدُ الَّذِيْنَ مَعَهُ فِي الأَرْضِ. فَلَمَّا أرَادَ اللهُ أنْ يَخْلُقَ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ؛ قَالَ لِلْمَلاَئِكَةِ الَّذِيْنَ كَانُواْ مَعَ إبْلِيْسَ فِي الأرْضِ: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾.
فَتَعَجَّبُواْ مِنْ ذَلِكَ؛ وَ ﴿ قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ﴾ كَمَا فَعَلَتِ الْجِنُّ بَنُو الْجَانِ ﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ فَلَمَّا قَالُواْ هَذَا الْقَوْلَ خَرَجَتْ لَهُمْ نَارٌ مِنَ الْحُجُب وَاحْتَرَقَتْ عَشْرَةُ آلاَفِ مَلَكٍ مِنْهُمْ وَأعْرَضَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ عَنِ الْبَاقِيْنَ حَتَّى طَافُواْ حَوْلَ الْعَرْشِ سَبْعَ سِنِيْنَ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ اعْتِذَاراً إلَيْكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ﴾؛ وذلك أنَّ الله لَمَّا قال للملائكةِ: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ قَالُواْ فِيْمَا بَيْنَهُمْ: يَخْلِقُ رَبُّنَا مَا يَشَاءُ؛ فَلَنْ يَخْلِقَ خَلْقاً أفْضَلَ وَلاَ أكْرَمَ عَلَيْهِ مِنَّا. وَإنْ كَانَ خَيْراً مِنَّا فَنَحْنُ أعْلَمُ مِنْهُ؛ لأَنَّا خُلِقْنَا قَبْلَهُ وَرَأيْنَا مَا لَمْ يَرَهُ؛ فَلَمَّا أُعْجِبُواْ بعَمَلِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ فَضَّلَ اللهُ آدَمَ عَلَيْهِمْ بالْعِلْمِ فَعَلَّمَهُ الأسْمَاءَ كُلَّهَا؛ وَهِيَ أسْمَاءُ الْمَلاَئِكَةِ؛ وَقِيْلَ: أسْمَاءُ ذُرِّيَّتِهِ؛ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: [أسْمَاءُ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الدَّوَاب وَالطُّيُور وَالأَمْتِعَةِ حَتَّى الشَّاةَ وَالْبَقَرَ وَالْبَعِيْرَ وَحَتَى الْقَصْعَةَ وَالسُّكُرُّجَةَ].
وَقِيْلَ: أسماءُ كلِّ شيءٍ من الحيوانِ والجمادات وغيرِها؛ فقِيْلَ: هذا فرسٌ وهذا حمارٌ وهذا بغل حتى أتَى على آخرِها.﴿ ثُمَّ عَرَضَهُمْ ﴾، أي عَرَضَ تلك الشُّخوص الْمُسَمَّيَاتِ.
﴿ عَلَى ٱلْمَلَٰئِكَةِ ﴾، ولَم يقل عرضَها ردَّه إلى الشخوص المسميات؛ لأن الأعراض لا تُعرض؛ وإن شئتَ قلتَ: لأن فيهم من يعقل فغلبهم. وفي قراءة أُبي: (ثُمَّ عَرَضَهَا). وقال الضحَّاك: (عَلَّمَ اللهُ آدَمَ أسْمَاءَ الْخَلْقِ وَالْقُرَى وَالْمُدُنِ وَالأجْيَالِ وَأسْمَاءَ الطَّيْرِ وَالشَّجْرِ؛ وَأَسْمَاءَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَكُلَّ نَسْمَةٍ اللهُ بَادِيْهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). وعرض تلك الأسماء على الملائكة؛ ﴿ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ ﴾؛ بأن الخليفةَ الذي أجعلهُ: يفسدُ فيها ويسفك الدِّماءَ؟ أراد بذلك: كيفَ تدَّعون عِلْمَ ما لَم يكن وأنتم لا تعلمون عِلْمَ ما تَرَوْنَ وتُعَاينُونَ؟!وقال الحسنُ وقتادة: (مَعْنَاهُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ أنِّي لاَ أخْلُقُ خَلْقاً إلاَّ كُنْتُمْ أعْلَمَ مِنْهُ وَأَفْضَلَ!!). فقالتِ الملائكةُ أقراراً بالعجزِ واعتذاراً: ﴿ قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ ﴾؛ أي تنْزِيهاً لكَ عن الاعتراضِ في حُكمِك وتدبيرِكَ.
﴿ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ ﴾، في أمرِكَ. و ﴿ سُبْحَٰنَكَ ﴾ منصوبٌ على المصدر؛ أي نسبحُ سُبْحاناً في قولِ الخليل؛ وَقِيْلَ: على النِّداءِ المضافِ؛ أي يَا سُبْحَانكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾ له مَعنَيان؛ أحدُهما: الْمُحْكِمُ للفعلِ كقولِهم: عذابٌ أليمٌ؛ أي مؤلِم. وضربٌ وجيعٌ؛ أي مُوجِعٌ؛ فعلى هذا هو صِفَةُ فعلٍ. والآخرُ: بمعنى الْحَاكِمُ؛ فحينئذ يكون صفةُ ذاتٍ.


الصفحة التالية
Icon