قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ ﴾؛ قال المفسِّرون:" نزَلت هذه الآيةُ والسُّورة بأَسرِها في بني النَّضير واليهودِ، وعاهدوهُ أن لا يكُونوا معَهُ ولا عليهِ، لا يُقاتِلون معه ولا يقاتلونَهُ، فكانوا على ذلكَ حتى كانت وقعةُ أحُدٍ، فأصابَتِ المسلمين يومئذٍ نَكْبَةٌ، فنقَضُوا العهدَ، ورَكِبَ كعبُ ابن الأشرَفِ في أربَعين راكباً إلى مكَّة، فأتَوا قُريشاً فطلَبُوا إلى أبي سُفيان وأصحابهِ فحالَفُوهم وعاقَدُوهم بين الكعبةِ والأستار على حرب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ كلمَتَهم واحدةٌ. ثم رجعَ كعبُ بن الأشرف وأصحابهُ إلى المدينةِ. فنَزل جبريلُ عليه السلام على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأخبرَهُ بأمرِهم وقال له: " إنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ بقَتْلِ كَعْب بْنِ الأَشْرَفِ " فَجَمَعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أصْحَابَهُ وَأخْبَرَهُمْ بمَا صَنَعَ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ وَقَالَ لَهُمْ: " إنَّ اللهَ أمَرَنِي بقَتْلِهِ، فَانْتَدِبُوا إلَى ذلِكَ ". فَانْتَدَبَ رَهْطٌ مِنْهُمْ وَفِيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ مَسلَمَةَ، وَكَانَ أخَا كَعْبٍ مِنَ الرِّضَاعَةِ وَحَلِيفَهُ، فَانْطَلَقُوا فِي أوَّلِ اللَّيْلِ إلَى دَار كَعْبٍ، فَنَادَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَاسْتَنْزَلَهُ مِنْ دَارهِ، وَأوْهَمَهُ أنَّهُ يُكَلِّمُهُ فِي حَاجَةٍ، فَلَمَّا نَزَلَ أخَذ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ بنَاصِيَتِهِ وَكَبَّرَ، فَخَرَجَ أصْحَابُهُ وَكَانُواْ مِنْ وَرَاءِ الْحَائِطِ، فَضَرَبُوهُ حَتَّى بَرُدَ مَكَانُهُ، فَصَاحَتْ امْرَأتهُ وَتَصَايَحَتِ الْيَهُودُ، فَخَرَجُوا إلَيْهِمْ وَقَدْ رَجَعَ الْمُسْلِمُونَ. فَجَاءَ الْمُسْلِمُونَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأخْبَرُوهُ بذلِكَ، فَلَمَّا أصْبَحَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إلَيْهِمْ غَازياً، فَتَحَصَّنُوا فِي دُورهِمْ فَوَجَدَهُمْ فِي قَرْيَةٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهَا (زَهْوَةُ) وَهُمْ ينُوحُونَ عَلَى كَعْبٍ وَكَانَ سَيِّدَهُمْ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ؛ بَاغِيَةٌ عَلَى إثْرِ نَاعِيَةٍ، وَبَاكِيَةٌ عَلَى إثْرِ بَاكيَةٍ؟ قَالَ: " نَعَمْ " قَالُوا: ذرْنَا نَبْكِي شَجْواً عَلَى كَعْبٍ. وَقَدْ كَانَ عَبْدُاللهِ بْنُ أبي سَلُولٍ الْمُنَافِقُ وَأصْحَابُهُ أمَرَ إلَى الْيَهُودِ سِرّاً بأَنْ لاَ تَخْرُجُوا مِنَ الْحِصْنِ، وَقَاتِلُواْ مُحَمَّداً وَأصْحَابَهُ، فَإنْ قَاتَلُوكُمْ فَنَحْنُ مَعَكُمْ وَلاَ نُخْذُلُكُمْ وَلَنَنْصُرَنَّكُمْ، وَلَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ. فَدَرَبُواْ عَلَى الأَزقَّةِ وَحَصَّنُوهَا، فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إحْدَى وَعِشْرِينَ لَيْلَةً. فَلَمَّا عَجَزُوا عَنْ مُقَاوَمَةِ الْمُسْلِمِينَ وَآيَسُوا مِنْ نَصْرِ الْمُنَافِقِينَ لَهُمْ طَلَبُوا الصُّلْحَ، فَأَبَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ أنْ يَخْرُجُواْ مِنْ مَدِينَتِهِمْ عَلَى مَا يَأْمُرُهُمْ بهِ، فَقَبلُوا ذلِكَ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى الْجَلاَءِ، وَعَلَى أنْ يَحْمِلَ كُلُّ أهْلِ ثَلاَثَةِ أبْيَاتٍ مِنْ مَتَاعِهِمْ عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ مَا شَاءَ، وَلِنَبيِّ اللهِ مَا بَقِيَ، وَيَخْرُجُوا، إلَى الشَّامِ، فَفَعَلُوا ذلِكَ وَخَرَجُواْ إلَى الشَّامِ إلَى أذْرُعَاتٍ وَأريحَا وَالْحِيرَةَ وَخَيْبَرَ. فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾ "يعني بني النَّضير من ديارهم التي كانت بيَثرِبَ وحصونِهم. قال ابنُ اسحاق: (كَانَ إجْلاَءُ بَنِي النَّضِيرِ عِنْدَ مَرْجِعِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أُحُدٍ، وَكَانَ فَتْحُ قُرَيْظَةَ عِنْدَ مَرْجِعِهِ مِنَ الأَحْزَاب، وَبَيْنَهُمَا سَنَتَانِ). قَولهُ: ﴿ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ ﴾ معناهُ: هو الذي أخرجَ هؤلاءِ اليهود من منازلهم وحصونِهم لأوَّلِ جمعٍ أُجْلُوا من جزيرةِ العرب وهي أرضُ الحجاز حُشِرُوا إلى الشامِ، وذلكَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ لَهم يومئذٍ: " اخْرُجُوا " قَالُوا إلَى أيْنَ؟ قَالَ: " إلَى الْمَحْشَرِ " فَخَرَجُوا إلَى أذْرُعَاتٍ وَأريْحَا مِنَ الشَّامِ. وأمَّا ثاني الحشرُ فهو أن يُحشَرَ الخلائقُ يومَ القيامةِ إلى أرضِ الشَّام أيضاً. ويقالُ: إنما قالَ ﴿ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ ﴾ لأنَّ الحشرَ أربعةٌ: حشرُ بني النَّضِير أوَّلاً، ثم حشرُ خَيبر، ثم أهلُ نَجران، ثم حشرُ جميعِ أهلِ الكتاب من جزيرةِ العرب في خلافة عُمر رضي الله عنه على ما رُوي: أنَّهُ أجْلاَهُمْ مِنْهَا، وَقَالَ: (عَهِدَ إلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ لاَ يَجْتَمِعَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَب دِينَانِ). قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ ﴾؛ أي ما ظَننتُم أيُّها المؤمنون أن يخرجَ بنُو النضير من منازلهم لشدَّة تَمكُّنِهم وقوَّتِهم بالأموالِ والمنَعَةِ، وذلك أنهم كانوا أهلَ حصُونٍ وعقارٍ ونخيل كثيرة وسلاح. قولهُ: ﴿ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ ﴾؛ وظنَّ بنو النضيرِ أنَّ حُصونَهم تَمنَعُهم من اللهِ؛ أي من أمرِ الله فيهم.
﴿ فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ﴾؛ أي فأَتَاهم أمرُ اللهِ من حيث لم يظُنُّوا أن ينْزِل بهم ما نزلَ من قتلِ كعب ابن الأشرف وقَتلِهم وإجلائِهم ونصرِ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم من حيث لم يتوهَّمَ القومُ.
﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ ﴾؛ بقتلِ سيِّدِهم كعبَ بن الأشرف، وكان ذلك أعظمُ شيءٍ عليهم إذ أتاهم ما لم يظُنُّوه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ وذلك أنَّهم لَمَّا أيقَنُوا بالجلاءِ حَسَدُوا المسلمين أن يَسكُنوا منازلَهم، فجعلوا يُخَرِّبونَها من داخلِ، والمسلمون يُخرِّبونَها من خارجِ. وَقِيْلَ: إنَّهم كانوا يَهدِمُونَها من داخلِ بأيديهم ليَرمُوا المسلمين بأحجَارها، ويَهدِمُها المؤمنون ليتمَكنَّوا من قتالِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ ﴾؛ معناه: فَليَعتَبرْ بما أصابَ بني النضير كلُّ مَن له بصرٌ بأمرِ الله، ولينظر إلى عاقبةِ الكُفرِ والغدر والطَّعنِ في النبُوَّة، وليحذرْ كلُّ قومٍ من الكفَّار مثلَ صنيعِ بني النضير. والمعنى: تدبَّرُوا وانظروا فيما صنع، نزلَ بهم يا أهلَ البيتِ والعقل والبصائرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ ﴾، قرأ العامَّة بالتخفيفِ من الإخْرَاب؛ أي يَهِدِمُونَها، وقرأ الحسنُ وأبو عمرٍو (يُخَرِّبُونَ) بالتشديد من التَّخريب، قال أبو عمرٍو: وإنما اخترتُ التشديدَ؛ لأنَّ الإخرابَ تركُ الشيءِ خَراباً بغيرِ ساكنٍ، وبنو النضير لم يترُكوا منازلَهم فيرتَحِلُوا عنها، ولكنَّهم خرَّبُوهَا بالنقض والهدمِ. وقال بعضُهم: التخريبُ والإخرابُ بمعنى، قال الزهريُّ: (وَذلِكَ أنَّهُمْ لَمَّا أيْقَنُوا بالْخُرُوجِ كَانُوا يَهْدِمُونَ أعْمِدَةَ بُيُوتِهِمْ وَيَنْتَزِعُونَ الْخَشَبَ وَالاَلاَتِ وَيَنْقُضُونَ السُّقُوفَ وَيَنْقُبُونَ الْجِدَارَاتِ وَيَقْتَلِعُونَ الْخَشَبَ حَتَّى الأَوْتَادَ لِئَلاَّ يَسْكُنَهَا الْمُسْلِمُونَ حَسَداً وَبَغْضَاءً، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُخَرِّبُونَ مَا بَقِيَ مِنْ بنَائِهِمْ). وقولهُ تعالى: ﴿ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا ﴾؛ معناهُ: لولا أنْ قضَى اللهُ عليهم في اللَّوح المحفوظِ بالانتقال والخروجِ من أوطانِهم إلى الشَّام وخيبرَ لعَذبَهم في الدُّنيا بالقتلِ والسَّبي كما فعلَ ببني قُريظة.
﴿ وَلَهُمْ ﴾؛ مع ما أصابَهم في الدُّنيا.
﴿ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ ﴾؛ ولكنْ عَلِمَ اللهُ أن الجلاءَ أصلحُ. وقولهُ تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾؛ أي ذلكَ الجلاءُ والعذابُ بأنَّهم خالَفُوا أولياءَ اللهِ وأخذُوا في شِقٍّ غيرِ شِقِّ أولياءِ الله ورسولهِ.
﴿ وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ ﴾؛ ومَن يخالفِ اللهَ ورسولَهُ في الدِّين ففَعَلَ فِعْلَ هؤلاءِ.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾؛ له في الدُّنيا والآخرةِ.