قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ﴾؛ قال الكلبيُّ: ( ﴿ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ ﴾ مُبْتَدَأ، وَخَبَرُهُ ﴿ يُحِبُّونَ ﴾ ). وَهَذا ثناءٌ على الأنصار،" وذلك أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أعْطَى الْمُهَاجِرِينَ مَا قَسَمَ لَهُمْ مِنْ فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ لَمْ يَأْمَنْ عَلَى غَيْرِهِمْ أنْ يَحْسِدَهُمْ إذْ لَمْ يَقْسِمْ لَهُمْ. فَقَالَ لِلأَنْصَار: " إنْ شِئْتُمْ قَسَمْتُمْ لَهُمْ مِنْ دُوركُمْ وَأمْوَالِكُمْ، وَقَسَمْتُ لَكُمْ مَا قَسَمْتُ لَهُمْ، وَإمَّا أنْ يَكُونَ لَهُمُ الْقَسْمُ وَلَكُمْ دِيَارُكُمْ وَأمْوَالُكُمْ " فَقَالُواْ: لاَ؛ بَلْ نَقْسِمُ لَهُمْ مِنْ دِيَارنَا وَأمْوَالِنَا وَلاَ نُشَاركُهُمْ فِي قَسْمِهِمْ. فَأَثْنَى اللهُ تعالَى عليهم بهذه الآيةِ ". والمعنى: لَزِمُوا دارَ الهجرةِ ولَزِمُوا الإيمانَ من قبلِ هجرةِ المهاجرِين ووَطَنُوا منازلَ أنفُسِهم، فهم يحبُّون مَن هاجرَ إليهم من مكَّة من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً ﴾؛ ضِيقاً وحسَداً.
﴿ مِّمَّآ أُوتُواْ ﴾؛ مما أُعطِيَ المهاجرين من الغنائِم. ومعنى الآيةِ: ﴿ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ ﴾ يعني المدينةَ، وهي دارُ الهجرةِ، وتبَوَّأها الأنصارُ قبلَ المهاجرِين. وتقديرُ الآية: والَّذين تَبوَّءوا الدارَ مِن قبلِهم والإيمانَ؛ لأن الأنصارَ لم يُؤمِنوا قبلَ المهاجرِين، وعطفُ (الإيْمَانَ) على (الدَّارَ) في الظاهرِ لا في المعنى؛ لأنَّ الإيمان ليس بمكانِ تَبَوَّءٍ. والتقديرُ: وآثَرُوا الإيمانَ واعتقَدُوا الإيمانَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾؛ معناهُ: ويُؤثِرُون المهاجرِين على أنفُسِهم بأموالِهم ومنازلهم، ولو كان بهم فقرٌ وحاجة إلى الدار والنَّفقةِ، بيَّن اللهُ أن إيثارَهم لم يكن عن غِنًى عن المالِ ولكن عن حاجةٍ، فكان ذلك أعظمَ لأجرِهم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:" جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي؟ فَبَعَثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى أحَدِ أزْوَاجِهِ: " هَلْ عِنْدَكُنَّ شَيْءٌ؟ " فَكُلُّهُنَّ قُلْنَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بالْحَقِّ مَا عِنْدَنَا إلاَّ الْمَاءُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " مَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا يُطْعِمُكَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ " ثُمَّ قَالَ: " مَنْ يُضِيفُ هَذا هَذِهِ اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللهُ؟ ". فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ، - قالَ في صحيحِ مُسلم: هُوَ أبُو طَلْحَةَ، وَقِيْلَ: أبُو أيُّوبٍ، والضَّيْفُ أبُو هريرةَ - فَمَضَى بهِ إلَى مَنْزِلِهِ، فَقَالَ لأَهْلِهِ: هَذا ضيْفُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكْرِمِيهِ وَلاَ تَدَّخِرِي عَنْهُ شَيْئاً، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إلاَّ قُوتُ الصِّبْيَةِ، قَالَ: قُومِي فَعَلِّلِيهِمْ عَنْ قُوتِهِمْ حَتَّى يَنَامُوا، ثُمَّ أسْرِجِي وَأحْضِرِي الطَّعَامَ، فَإذا قَامَ الضَّيْفُ لِيَأْكُلَ قُومِي كَأَنَّكِ تُصْلِحِينَ السِّرَاجَ فَأَطْفِئِيهِ، وَتَعَالَي نَمْضُغْ الْسِنَتَنَا لِضَيْفِ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَشْبَعَ. فَقَامَتْ إلَى الصِّبْيَةِ فَعَلَّلَتْهُمْ حَتَّى نَامُوا وَلَمْ يَطْعَمُوا شَيْئاً، ثُمَّ قَامَتْ فَأَسْرَجَتْ، فَلَمَّا أخَذ الضَّيْفُ لِيَأْكُلَ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ السِّرَاجَ فَأَطْفَأَتْهُ، وَجَعَلاَ يَمْضُغَانِ ألْسِنَتَهُمَا، فَظَنَّ الضَّيْفُ أنَّهُمَا يَأْكُلاَنِ مَعَهَُ، فَأَكَلَ الضَّيْفُ حَتَّى شَبعَ، وَبَاتَا طَوِيَّيْنِ. فَلَمَّا أصْبَحَا غَدَوا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِمَا تَبَسَّمَ ثُمَّ قَالَ: " لَقَدْ عَجِبَ اللهُ مِنْ فُلاَنٍ وَفُلاَنَةٍ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ ". وقال أنسٌ رضي لله عنه: (أُهْدِيَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ رَأسَ شَاةٍ مَشْوِيَّةٍ وَكَانَ مَجْهُوداً، فَقَالَ: لَعَلَّ جَاري أحْوَجُ إلَيْهِ مِنِّي، فَبَعَثَ بهِ إلَيْهِ، ثُمَّ إنَّ جَارَهُ قَالَ مِثْلَ ذلِكَ، فَوَجَّهَ بهِ إلَى جَارٍ لَهُ، فَتَدَاوَلَهُ تِسْعَةُ أنْفُسٍ حَتَّى رَجَعَ إلَى الأَوَّلِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ ). ويُحكى عن أبي الحسنِ الأنطاكيِّ: أنه اجتمعَ عندَهُ نَيِّفٌ وثلاثون رجُلاً بقريةٍ من قُرى الريِّ ومعَهم أرغفةٌ قليلة لم تُشبعْ جوعَتَهم، فكسَّروا الرِّغفَانَ وأطفَأُوا السِّراجَ وجلَسُوا ليأكلُوا، فلمَّا رفعَ فإذا الطعامُ بحالهِ لم يأكُلْ منه أحدٌ إيْثَاراً لصاحبهِ على نفسهِ. ويُحكى عن حذيفةَ العدويِّ قال: (انْطَلَقْتُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ أطْلُبُ ابْنَ عَمٍّ لِي وَمَعِي شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ، فَإذا أنَا بهِ فَقُلْتُ: أسْقِيكَ؟ فَأَشَارَ: أيْ نَعَمْ، فَإذا رَجُلٌ يَقُولُ: آهٍ، فَأَشَارَ ابْنُ عَمِّي أنْ انْطَلِقَ بهِ إلَيْهِ، فَإذا هُوَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ، فَقُلْتُ: أسْقِيكَ؟ فَسَمِعَ آخَرَ يَقُولُ: آهٍ، فَأَشَارَ هِشَامُ: أنِ انْطَلِقْ بهِ إلَيْهِ، فَإذا هو قَدْ مَاتَ، ثُمَّ رَجَعْتُ إلَى هِشَامٍ فَإذا هُوَ قَدْ مَاتَ، ثُمَّ رَجَعْتُ إلَى ابْنِ عَمِّي فَإذا هُوَ قَدْ مَاتَ). ويحكى عن أبي يزيدٍ البسطاميِّ قال: " مَا غَلَبَنِي إلاَّ شَابٌّ مِنْ أهْلِ بَلَخٍ قَدِمَ عَلَيْنَا حَاجّاً، فَقَالََ لِي: يَا أبَا يَزِيدٍ مَا حَدُّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ؟ قُلْتُ: إذا وَجَدْنَا أكَلْنَا، وَإذا فَقَدَْنَا صَبَرْنَا. قَالَ: هَكَذا عِنْدَنَا كِلاَبُ بَلَخٍ! فَقُلْتُ: مَا حَدُّّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ؟ قَالَ: إذا فَقَدْنَا صَبَرْنَا، وَإذا وَجَدْنَا آثَرْنَا). وسُئل ذو النونُ عن الزُّهد فقالَ: (ثَلاَثٌ: تَفْرِيقُ الْمَجْمُوعِ، وَتَرْكُ الْمَفْقُودِ، وَالإيْثَارُ عِنْدَ الْقُوتِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴾؛ أي مَن يدفَعُ عنه غائلةَ نفسهِ وحرصَ النفسِ حتى تطيبَ نفسهُ بذلك، فأُولئك همُ النَّاجُونَ السُّعداء، الباقون في الآخرةِ. والشُّحُّ في الآخرة: منعُ النَّفعِ، وأمَّا في الدُّنيا فهو منعُ الواجب، وفي الحديثِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:" بَرِئَ مِنَ الشُّحِّ مَنْ أدَّى زَكَاةَ مَالِهِ، وَأقْرَى الضَّيْفَ، وَأعْطََى فِي النَّائِبَةِ "وقال سعيدُ بن جبير: (شُحُّ النَّفْسِ هُوَ أخْذُ الْحَرَامِ وَمَنْعُ الزَّكَاةِ). وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى عَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقالَ: لَقَدْ خِفْتُ أنْ لاَ تُصِيبَنِي هَذِهِ الآيَةُ ﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴾ وَاللهِ مَا أقْدِرُ أُعْطِي شَيْئاً أُطِيقُ مَنْعَهُ، فَقَالَ عَبْدُاللهِ: (إنَّمَا ذلِكَ الْبُخْلُ وَبئْسَ الشَّيْءُ الْبُخْلُ، وَلَكِنَّ الشُّحَّ أنْ تَأْخُذ مَالَ أخِيكَ بغَيْرِ حَقِّهِ). وعن أبي هريرةَ قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" لاَ يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالإِيْمَانُ فِي قَلْب رَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ مُسْلِمٍ قَطُّ ". واختلفَ العلماءُ في الشُّحِّ والبُخلِ، فقال بعضُهم: هما واحدٌ، وهو منعُ الفَضْلِ. وقال بعضُهم: بينهما فَرْقٌ، والبخلُ أنْ يبخلَ الرجلُ بما في يدهِ، والشحُّ أن يبخلَ بما في أيدِي الناسِ. وعن جابرِ بن عبدِالله قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" اتَّقُوا الشُّحَّ، فإنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ أنْ سَفَكُوا الدِّمَاءَ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارمَهُمْ ". وعن أبي الْهَيَّاجِ الأسديِّ قال: " كُنْتُ أطُوفُ بالْبَيْتِ، فَرَأيْتُ رَجُلاً يَقُولُ: اللَّهُمَّ قِنِي شُحَّ نَفْسِي، لاَ يَزِيدُ عَلَى ذلِكَ، فَقُلْتُ لَهُ فِي ذلِكَ، فَقَالَ: إذا وُقِيتُ شُحَّ نَفْسِي لَمْ أسْرِقْ وَلَمْ أزْنِ، وَإذا الرَّجُلُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ). ويُحكى أنَّ كسرَى قال لأصحابهِ ذاتَ يومٍ: أيُّ شيءٍ أضرُّ بابنِ آدمَ؟ قالوا: الْفَقْرُ، فقال كسرى: والشُّحُّ أضرُّ من الفقرِ؛ لأن الفقيرَ إذا وجدَ شَبعَ، وإن الشحيحَ لا يشبعُ أبداً.


الصفحة التالية
Icon