قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً ﴾؛ معناه: إنَّ القيامَ في ساعاتِ الليل أثقلُ وأشدُّ على القائمِ من القيامِ بالنَّهار؛ لأن الليلَ إنما خُلِقَ للرَّاحة والسُّكون، ففِعْلُ الطاعةِ فيه أشدُّ من فعلِها بالنهار، وقال ابنُ مسعودٍ: ((إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ قِيَامُ اللَّيْلِ)). وقالت عائشةُ: ((النَّاشِئَةُ الْقِيَامُ بَعْدَ النَّوْمِ))، وعن ابنِ الأعرابيِّ: ((إذا نِمْتَ مِنْ أوَّلِ اللَّيْلِ، ثُمَّ قُمْتَ فَتِلْكَ النَّاشِئَةُ)) ومنه ناشئةُ اللَّيل. وَقِيْلَ: ناشئةُ الليل ساعاتُها كلُّها، وكلُّ ساعةٍ منه فهي ناشئةٌ، سُميت بذلك؛ لأنَّها تُنشِئ، ومنه نشأَتِ السَّحابةُ إذا بَدَتْ، وجمعُها نَاشِئَاتٌ، وعن حاتمِ بن أبي صغيرة قال: ((سَأَلْتُ ابْنَ أبي مُلَيْكَةَ عَنْ نَاشِئَةِ اللَّيْلِ فَقَالَ: عَلَى اللَّبيب سَقَطْتَ، سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَزَعَمَ أنَّ اللَّيْلَ كُلَّهُ نَاشِئَةٌ، وَسََأَلْتُ الزُّبَيْرَ عَنْهَا فَأَخْبَرَنِي مِثْلَ ذلِكَ)). وقال ابنُ جبير: ((أيُّ سَاعَةٍ قَامَ مِنَ اللَّيْلَ فَقَدْ نَشَأَ))، وقال قتادةُ: ((مَا كَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَهُوَ نَاشِئَةٌ)). وقال عبيدُ بن عمير لعائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: ((رَجُلٌ قَامَ مِنْ أوَّلِ اللَّيْلِ أيُقَالُ لَهُ نَاشِئَةٌ؟ قَالَتْ: لاَ؛ إنَّمَا النَّاشِئَةُ الْقِيَامُ بَعْدَ النَّوْمِ)). وقال ابنُ كَيسان: ((هِيَ الْقِيَامُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ)). وعن ابنِ عبَّاس قال: ((إذا نَشَأَْتَ قَائِماً فَهُوَ نَاشِئَةٌ))، وعن مجاهدٍ أنه قالَ: ((إذا قَامَ الإنْسَانُ اللَّيْلَ كُلَّهُ فَصَلَّى فَهُوَ نَاشِئَةٌ، وَمَا كَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ الأَخِيرَةِ فَهُوَ نَاشِئَةٌ)). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً ﴾ أي أثقلُ على المصلِّي من ساعاتِ النَّهار، من قولِ العرب اشتدَّت على القومِ وَطْأَةُ السُّلطان؛ إذا ثَقُلَ عليهم ما يلزَمُهم، ومنه قولهُ صلى الله عليه وسلم:" اللَّهُمْ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ ". وقرأ أبو عمرٍو وابنُ عامر (وِطْئاً) بكسر الواو والمدِّ على معنى الْمُوَاطَأَةِ والموافقةِ، ومنه قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ ﴾[التوبة: ٣٧]، قال ابنُ عبَّاس: ((يُوَاطِئُ السَّمْعُ الْقَلْبَ))، والمعنى: أنَّ صلاةَ ناشئة الليلِ يُواطِئُ السمعُ والقلبُ فيها أكثرَ مما يُواطِئ في ساعاتِ النَّهار؛ لأن الليلَ أفرغُ للانقطاعِ عن كُثْرِ ما يشغلُ بالنهار. ويقال: وَاطَأَتَ فُلاناً على كذا مُواطَأَةً ووَطْأَةً؛ إذا وافقتَهُ عليه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَقْوَمُ قِيلاً ﴾؛ أي أبْيَنُ قَوْلاً بالقرآنِ، وَقِيْلَ: أستَرُ استقامةً وأطرَبُ قراءةً، وعبادةُ الليلِ أشدُّ نَشاطاً وألَدُّ إخلاصاً وأكثرُ بركةً.


الصفحة التالية
Icon