قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ﴾؛ معناهُ: إنَّ ربَّكَ يا مُحَمَّدُ يعلمُ إنَّكَ تقومُ أقَلَّ من ثُلُثَي الليلِ في بعضِ اللَّيالي، وأقلَّ من نصفِ اللَّيلِ في بعضِ اللَّيالي، وأقلَّ من الثُّلث في بعضِها. قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ ﴾؛ يعني: الْمُؤمِنون كانوا يقُومون معَهُ. قرأ الكوفيُّون وابنُ كثير (وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) بالنصب فيهما على معنى: ويقومُ نصفَهُ وثُلثَهُ. وقال الحسنَ: ((لَمْ يَقُمِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ أقَلَّ مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ، وَإنَّمَا قَالَ: (أدْنَى) فِي الطَّائِفَةِ الَّذِينَ مَعَهُ)) ولفظهُ (أدْنَى) تُعقَلُ منها القلَّة، لا يقالُ: عندِي دونَ العشرةِ إلاَّ والنُّقصان منها قليلٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ ﴾؛ أي يعلَمُ مقاديرَهما وساعاتِهما على الحقيقةِ.
﴿ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ ﴾؛ أي عَلِمَ أنَّكم لم تعلَمُوا حقيقةَ قدرهما، يعني أنَّكم ما تعرِفُون مقاديرَ اللَّيل والنهار، ولذا لم تعلَمُوا حقيقةَ المقدار الذي أمَرَكم بالقيامِ فيه لم تُطِيقوهُ إلاَّ بمشقَّة.
﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾؛ أي فتجاوزَ عنكم قيامَ الليلِ بالتخفيفِ عنكم.
﴿ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ ﴾؛ في صلاةِ اللَّيل. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ ﴾؛ لا يقدِرون على قيامِ اللَّيل بقراءةِ السُّوَر الطِّوالِ.
﴿ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي وآخَرُون يُسافِرُونَ لطلب رزقِ الله فلا يُطيقون ذلكَ.
﴿ وَآخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي وعَلِمَ أنَّ فيكم مَن يجاهدُ في سبيلِ اللهِ، يعني يقاتلُ أعداءَ اللهِ لا يُطيقون قيامَ الليلِ.
﴿ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ﴾؛ أي مِن القُرآن في الصَّلاة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ ﴾؛ أي وأقِيمُوا الصَّلوات الخمسِ بشَرائطِها وما يجبُ من حقِّ الله فيها، فنُسِخَ قيامُ الليلِ بالصَّلوات الخمسِ على المؤمنين، وثَبَتَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم خاصَّة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ ﴾؛ يعني المفروضةَ.
﴿ وَأَقْرِضُواُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ﴾؛ من الصَّدقة سِوَى الزكاةِ من صِلَةِ الرَّحم، وقِرَى الضيفِ، وصدقةِ التطوُّع. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ ﴾؛ أي ما تفعَلُوا من صدقةٍ فريضة أو تطوُّع أو عملٍ صالح تجدُوا ثوابَهُ عند اللهِ.
﴿ هُوَ خَيْراً ﴾؛ لكم.
﴿ وَأَعْظَمَ أَجْراً ﴾؛ مِن الذي تُؤخِّرونَهُ إلى الوصيَّة عند الموتِ. وإنما انتصبَ (خَيْراً) لأنه المفعولُ الثاني، وأدخل (هو) فصل، ويسَمِّيه الكوفيُّون العمادَ.
﴿ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ ﴾؛ لِمَا مضَى من الذُّنوب والتقصيرِ في الطاعة.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾؛ لِمَن استغفرَ.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾؛ لِمَن ماتَ على التوبةِ. وقد تضمَّنت هذه الآيةُ معانٍ: أحدُها: أنه نَسَخَ بها فريضةَ قيامِ الليل. الثانِي: أنَّها تدلُّ على لُزوم فرضِ القراءةِ في الصَّلاة؛ لأن القراءةَ لا تلزَمُ في عينِ الصَّلاة. والثالث: دلالةُ جواز الصَّلاة بقليلِ القراءةِ. والرابعُ: أنَّ تركَ قراءةِ الفاتحةِ في الصَّلاة لا تمنعُ جوازَها إذا قرأ فيها غيرَها. فإنْ قِيْلَ: هذه الآيةُ نزَلت في قيامِ الليل وذلك منسوخٌ، فكيف تستدِلُّون بها على هذه الأحكامِ؟ قُلنا: المرادُ بقولهِ تعالى ﴿ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ ﴾ أمرٌ بالقراءةِ بعدَ ذكرِ النَّسخِ، ثم نسخُ فرضِ الصلاةِ لا يوجبُ نسخَ شَرائطِها وسائرِ أحكامها. فإن قِيْلَ: المرادُ بقوله: ﴿ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ ﴾ في صلاةِ التطوُّع. قُلنا: إذا ثبتَ وجوبُ ذلك وحكمُه في التطوُّع فالفرضُ مثلهُ؛ لأن أحداً لا يفرَّقُ بينهما في هذهِ الأحكامِ، وصلاةُ التطوُّع وإنْ لم تكن فَرضاً لكن إذا شَرَعَ فيها يلزمهُ إقامتُها بجميعِ أركانِها كما لَزِمَهُ إقامتُها بجميعِ شَرائطِها من الطَّهارةِ وسَترِ العورةِ ونحوِ ذلك.