قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ﴾؛ ألم تعلم كيفَ صنعَ ربُّكَ بعادٍ وكيف أهلكَهم.
﴿ إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ ﴾، وأما إرَمَ فهو صفةٌ لعادٍ، وهي عَادَان: عادٌ الأُولى وهي إرَمَ، وعادٌ الآخرة. ولم يُصْرَفْ إرَمَ؛ لأنَّها اسمٌ للقبيلةِ، وكان إرمَ أبا عادين فنُسبوا إلى أبيهم. وَقِيْلَ: إن إرمَ كانت قبيلةً من عادٍ وكان فيهم الملكُ.
﴿ ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ ﴾ أي القامَات الطِّوالِ والقوَى الشدائد، يقال رجلٌ مَعْمَدٌ ورجل عَمدَانٌ إذا كان طَويلاً قويّاً، قال ابنُ عباس: ((كَانَتْ قَامَةُ الرَّجُلِ مِنْهُمْ أرْبَعُمِائَةِ ذِرَاعٍ، لَمْ يُخْلَقْ مِثلُهُمْ فِي زَمَانِهِمْ قُوَّةً وَخَلْقاً)). ويقال: إنه اسمُ مدينةِ ذات العماد والذهب والفضَّة، بناها شدَّادُ بن عاد. والقولُ الأول أقربُ إلى ظاهرِ الآية؛ لأنَّ الغرضَ بهذه الآية زجرُ الكفَّار، وكان اللهُ بيَّن بإهلاكِهم مع قوَّتِهم أنه على إهلاك هؤلاء الكفار أقدرُ. وقصَّة مدينة إرم ذات العماد ما روَى وهبُ بن منبه عن عبدِالله بن قُلابة: أنه خرجَ في طلب إبلٍ له شرَدت. فبينما هو في صحَارى عدَن، إذ وقع على مدينةٍ في تلك الفَلَوات، عليها حصنٌ وحولَ الحصنِ قصورٌ كثيرة وأعلامٌ طِوَال. فلما دنَا منها ظنَّ أن فيها أحداً يسألهُ عن إبله، فلم يرَ خارجاً ولا داخلاً، فنَزل عن دابَّته وعقلَها، وسلَّ سيفَهُ ودخلَ من باب الحصنِ، فلما خلفَ الحصنَ وراءه إذ هو ببابَين عظيمين وخشبُهما من أطيب عود، والبابان مرصَّعان بالياقوتِ الأبيض والأحمر، ففتحَ أحدهما فإذا هو بمدينةٍ فيها قصورٌ، كلُّ قصر تحته أعمدَةٌ من زبرجد وياقوتٍ، وفوق كلِّ قصر منها غُرَف، وفوقَ الغرف غرفٌ مبنيَّة بالذهب والفضة واللؤلؤِ والياقوت، ومصاريعُ تلك الغرف من أطيب عود مرصَّعة بالياقوتِ الأبيض والأحمر، والغرفُ مفروشةٌ كلُّها باللؤلؤ والمسكِ والزعفران. ثم نظرَ في الأزقَّة فإذا في كلِّ زُقاق شجرٌ مثمر، وتحتَ الأشجار أنْهار مطَّردة ماؤُها في مجاري من فضَّة. فقال الرجلُ: هذه هي الجنَّة التي وصفَها اللهُ تعالى في كتابهِ، فحملَ معه من لُؤلؤِها ومِسكِها وزعفرانِها؛ ورجعَ إلى اليمنِ وأعلمَ الناس بأمرهِ. فبلغَ معاويةَ فأحضرَهُ وسألَ كعبَ الأحبار: هل في الدُّنيا مدينةٌ من ذهب وفضَّة؟ قال: نعم، قال أخبرني مَن بنَاها؟ قال: بناها شدَّادُ بن عاد، واسمُ المدينةِ إرَمُ ذاتُ العمادِ، وهي التي لم يُخلَقْ مثلُها في البلادِ. قال معاويةُ: فحدِّثني بحديثِها. قال: يا معاويةُ إنَّ رجُلاً من عادٍ الأُولى كان له إبنان: شدَّاد وشديدُ، كان قد قهرَ البلاد وأخذها عُنوةً، وليس هو من قومِ هود، وإنما عادٌ هو من ذريَّته، فأقامَ شدَّادُ وشديد ما شاءَ الله أن يُقيما، ثم ماتَ شديد وبقي شدَّاد، فملَكَ وحده وتدانَتْ له ملوكُ الأرضِ، وكان وَلِعاً بقراءة الكُتب. فلمَّا مرَّ فيها بذكرِ الجنَّة، دعَتْهُ نفسهُ إلى بناءِ مثلها عُتُوّاً على اللهِ تعالى، فأمرَ ببناءِ هذه المدينة المذكورةِ، فأمَّر على صَنَعَتِها مائة أميرٍ، مع كل أميرٍ ألفٌ من الأعوانِ، وكتبَ إلى كلِّ ملكٍ في الدنيا أن يجمعَ له ما في بلادهِ من الجواهرِ، وكانت تحت يدهِ مائتانِ وستُّون ملِكاً. قال معاويةُ: كم أقامَ في مدَّة بنائِها؟ قال: أقَامُوا ثلاثَمِائةِ سَنةٍ في بنائِها وعمارتِها. قال: فكم كان عمرُ شدَّاد؟ قال: سبعُمائة سَنة، وإنما سَمَّاها اللهُ ذاتُ العمادِ؛ لأجل الأعمِدة التي تحتَها من الزبرجد والياقوتِ. قال كعبٌ: فلما فرَغُوا من بنائها أعلَمُوا شدَّاداً بذلك فقال لَهم: انطَلِقوا واجعلوا فيها حِصناً واجعلوا حولَهُ ألفَ قصرٍ، عند كلِّ قصرٍ ألفَ علَمٍ حتى أجعلَ في كلِّ قصر وَزيراً من وُزرائي. فرجَعُوا فعملوا تلك القصور والأعلام والحصُون، ثم أتَوهُ فأخبروهُ بفراغِ ذلك، فأمرَ الوُزَراء أن يتهيَّأُوا بالنقلةِ إليها، وأمرَ جُندَهُ ونساءَهُ وخدَمهُ أن يتجهَّزُوا، فأقَامُوا في جهازهم عشرَ سنين. ثم سارَ الملكُ بجيشٍ لا يُحصِي عدَدهم إلاّ اللهُ، فلما صارَ إليها، ليسكُنَها وبلغَ إلى أن صارَ بينه وبينها مسيرةَ يومٍ وليلة، بعثَ الله عليهم جَميعاً هو وجنودهُ ووزراؤه صيحةً عظيمة من السَّماء فهلَكُوا ولم يبقَ منهم أحدٌ، ولم يدخل شدَّاد ولا أحدٌ من قومهِ تلك المدينةَ، ولم يقدر أحدٌ على دخولِها إلى يومِ القيامة، وسيدخلُها رجلٌ من المسلمين في زمانِكَ ولا يبلغُها أحدٌ غيره أبداً. قال معاويةُ: فهل تقدرُ أن تصِفَهُ يا أبا إسحاق؟ قال: نعم؛ هو رجلٌ أحمر قصير، على حاجبهِ خالٌ وعلى عُنقه خالٌ، يخرج في طلب إبلٍ له فيقعُ على تلك المدينةِ، فيدخُلها ويحمل شيئاً مما فيها، وكان الرجلُ حينئذ مختفياً عند معاويةَ، فقام ليذهبَ، فالتفتَ كعبٌ التفاتةً فرآهُ، فقال: هو هذا يا أميرَ المؤمنين. فقال له معاويةُ: لقد فضَّلَكَ الله يا كعبُ على غيركَ من العُلماء. فقال: يا أميرَ المؤمنين ما خلقَ الله شيئاً في الدُّنيا إلاَّ وقد فسَّرَهُ في التَّوراة لعَبدهِ موسى عليه السلام.