قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً ﴾[النساء: ١٠] الآيَةُ، خَافَ النَّاسُ أنْ لاَ يَعْدِلُواْ فِي أمْوَالِ الْيَتَامَى - وَكَانُوا يَتَزَوَّجُونَ مِنَ النِّسَاءِ مَا شَاءُوا - فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ). ومعناها: إنْ خِفْتُمْ أنْ لاَ تعدِلُوا في أموالِ اليتامَى؛ فَخَافُوا في النِّساءِ إذا اجتمعنَ عندَكُم أن لا تعدلُوا بينهنَّ، فَتَزَوَّجُوا ما حَلَّ لكم من النِّساءِ، ولاَ تَنْكِحُوا إلاَّ ما يُمكنكم إمساكهُنَّ: ثِنْتَانِ ثِنْتَانِ؛ وَثَلاَث ثلاث؛ وأربع أربعِ، ولا يزيدُوا على أربعِ حرائر. وقيل: معنى الآية: إنْ خِفْتُمْ أن لا تعدِلوا يا معشرَ الأولياءِ في اليتامَى إذا تزوجتُم بهِنَّ؛ فانْكِحُوا ما حلَّ لكم من النساء غيرهنَّ. وقال مجاهدُ: (مَعْنَاهُ: إنْ خِفْتُمْ فِي ولاَيَةِ الْيَتَامَى إيْمَاناً وتَصْدِيْقاً؛ فَخَافُوا فِي الزِّنَا، وَانْكِحُوا الطَّيِّبَ مِنَ النِّسَاءِ). وقال بعضُهم: كانوا يَتَحَرَّجُونَ عن أموالِ اليتامى، ويترخَّصون في النساءِ، ولا يعدلونَ فيهنَّ ويتزوجُون منهنَّ ما شاءُوا فربما عدلوا، وربَّما لم يعدلوا، فلما سألُوا عن أموالِ اليتامى، أنزلَ اللهُ تعالى﴿ وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ ﴾[النساء: ٢]، وأنزلَ ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ ﴾، أي كما خِفْتُمْ أن لا تُقْسِطُوا في اليتامى وهَمَّكُمْ ذلكَ؛ فخافُوا في النساءِ أن لا تعدلُوا فيهنَّ؛ ولا تزوَّجوا أكثرَ مما يُمكنِكم إمساكهنَّ والقيامُ بحقِّهنَّ؛ لأن النساءَ كاليتامَى في الضَّعْفِ والعَجْزِ، فما لكم تُرَاقِبُونَ اللهَ في شيء، وَتَعْصُونَهُ في مثلهِ، وهذا قولُ سعيدِ بن جبير وقتادةَ والربيعِ والضحَّاك والسديِّ، وروايةٌ ابنِ عبَّاس. والإقْسَاطُ في اللغة: الْعَدْلُ، يقال: أقْسَطَ؛ إذا عَدَلَ، وَقَسَطَ؛ إذا جَارَ، وإنَّما قال: (مَا طَابَ) ولم يقل مَنْ طَابَ؛ لأن (ما) مع الفعلِ بمنْزلة المصدر، كأنهُ قالَ: فانكحُوا الطيِّبَ، يعني الحلالَ من النساء. وقرأ ابن أبي عبلةَ: (مَنْ طَابَ)؛ لأن (ما) لِما لا يعقلُ و (من) لمن يعقل، إلاّ أنَّ عامَّة القُرَّاء والعلماءِ يقولون: إن العربَ تجعلُ (ما) بمعنى (مِن)؛ و (مِن) بمعنى (ما)، وقد جاءَ القُرْآنُ بذلكَ: قال اللهُ تعالى:﴿ وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا ﴾[الشمس: ٥]، وقال تعالى:﴿ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ ﴾[النور: ٤٥]، وقال تعالى:﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾[الشعراء: ٢٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ ﴾ بدل مِنْ (طَابَ لَكُمْ) وهو مما لا ينصرفُ، لأن ﴿ مَثْنَىٰ ﴾ معدولٌ عن اثنين وذلكَ نكرةٌ، و (ثُلاَثَ) معدولٌ عن ثلاثةٍ. وذهبَ بعض الرَّوَافِضِ إلى استحلالِ تِسْعِ استدلالاً بهذه الآية، ولَيْسَ ذلِكَ بشَيْءٍ، فإنَّ الواوَ هنا بمعنى (أو)،" وروي عن قيسِ بن الْحَارثِ: أنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ ثَمَانِي نِسْوَةٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ أمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يُمْسِكَ أرْبَعاً وَيُفَارقَ أرْبَعاً، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِغَيْلاَنَ حِيْنَ أسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ: " أمْسِكْ مِنْهُنَّ أرْبعاً؛ وَفَارقْ سَائِرَهُنَّ " ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ﴾؛ معناهُ: وإن خِفْتُمْ أن لا تعدِلُوا في القِسْمَةِ والنَّفقةِ بين النساءِ الأربع التي أحلَّ اللهُ لكم؛ فتزوَّجوا امرأةً واحدة لا تخافون الْمَيْلَ في أمرِها، واقْتَصِرُوا على الإمَاءِ حتى لا تحتاجُوا إلى الْقَسْمِ بينهنَّ يعني السّرَاري. وقولُ الحسنِ وأبي جعفرَ: (فَوَاحِدَةٌ) بالرَّفعِ؛ أي فَوَاحِدَةٌ كَافِيَةٌ؛ أو فَلْتَكُنْ وَاحِدَةٌ. وقرأ العامَّة نصباً أي فَانْكِحُوا وَاحِدَةً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ﴾ ذَكَرَ الأَيْمَانِ توكيداً؛ تقديرهُ: أوْ مَا مَلَكْتُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُواْ ﴾؛ أي التَّزَوُّجُ بالواحدةِ، والإقتصار على مِلْكِ اليمين أقربُ إلى أن لا تَعُولُوا. قال: أنْ لاَ تَجُورُوا وأن لا تَمِيلُوا: ألاَّ تَجُور. وَالْعَوَلُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، ومنهُ الْعَوَلُ في الفرائضِ: مُجَاوَزَةُ مَخْرَجِ الْفَرَائِضِ. رَوَتْ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿ أَلاَّ تَعُولُواْ ﴾ قَالَ:" ألاََّ تَجُورُواْ، أوْ أنْ لاَ تِمِيلُواْ "وأما مَن قال معنى: أنْ لاَ تَعُولُوا: لاَ تَكْثُرَ عِيَالُكَ، وهذا محكيٌّ عن الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ، فقد قيلَ: إنه خطأٌ في اللغة؛ لأنه لا يقالُ في كثرةِ العِيَالِ: عَالَ يَعُولُ، وإنَّما يقالُ: عَالَ يَعِيْلُ إذا صارَ ذا عِيَالٍ، وفي الآيةِ ما يُبْطِلُ هذا التأويلَ وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ﴾ لأن إباحةَ كلِّ ما مَلَكَ اليمينُ أزْيَدُ في العيالِ من أربع نِسْوَةٍ. وقرأ طاوُوس: (أنْ لاَ يَعِيلُوا) مِنَ الْعِيْلَةِ؛ يقال: عَالَ الرَّجُلُ يَعِيْلُ؛ إذا افْتَقَرَ، وَالْعِيْلَةُ: الْفَقْرُ. قال الشاعرُ: وَمَا يَدْري الْفَقِيْرُ مَتَى غِنَاهُ   وَمَا يَدْري الْغَنِيُّ مَتَّى يَعِيلُ


الصفحة التالية
Icon