قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (كَانَ الْمَالُ لِلْبنْتَيْنْ؛ وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبيْنَ إلَى أنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ثُمَّ صَارَ ذلِكَ مَنْسُوخاً بهَا). ومعناهَا: يَعْهَدُ اللهُ إليكُم وَيَفْرِضُ عليكُم في أولادِكم إذا مِتُّمْ: لِلذكَرِ الواحدِ من الأولادِ مِثْلُ نَصِيْب الأُنْثَيَيْنِ في الميراثِ، واسمُ الولدِ يتناولُ وَلَدَهُ مِن صُلْبهِ حقيقةً وَلَدَ وَلَدِهِ في النِّسبةِ والتعصيب، ولكنَّهم مِن ذوي الأرحامِ مَجَازاً، فإذا كان للميِّت ولدٌ من صُلْبهِ وجبَ حملُُ اللفظ على الحقيقةِ، وإن لم يكن لهُ وَلَدٌ من صُلْبهِ حُمِلَ على مَن كان مِن صُلْب بَنِيْهِ مَجازاً، وأمَّا ولدُ البَنَاتِ فلا يُعَدُّ مِن وَلَدِهِ في النِّسبةِ والتعصب، ولكنَّهم مِن ذوي الأرحامِ. قال الشاعرُ: بَنُونَا بَنُوا أبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا بَنُوهُنَّ أبْنَاءُ الرِّجالِ الأبَاعِدِوعن هذا قالَ أصحابُنا: فَمَنْ أوْصَى لولدِ فلانٍ أنَّ ذلك لولدهِ لصلب، فإن لم يكن لهُ ولدٌ من صُلْبهِ فهو ولدُ ابنهِ، ولا يدخلُ أولادُ البناتِ في هذه الوصيَّة على أظهرِ الرِّوايتينِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ ﴾؛ أي إنْ كان الأولادُ نساءً أكثرَ من اثنتين ليس معهُنَّ ذكَرٌ؛ ﴿ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ﴾؛ مِن المالِ، والباقِي للعَصَبَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ ﴾؛ قَرَأَ العامَّة بالنصب على خبرِ كَانَ، وقرأ نافعُ وَحْدَهُ بالرفعِ على أنَّ معناهُ: وَإنْ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ؛ فحينئذٍ لا خبرَ لهُ، وقراءةُ النصب أجْوَدُ، وتقديرهُ: فإن كانت المولودةُ واحدةً. فإنْ قيل: لِمَ أعْطَيْتُمُ الْبنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ وفي الآيةِ إجَابُ الثُّلُثَيْنِ لأكْثَرَ مِنَ الابْنَتَيْنِ؟ قِيْلَ: فِي فحوَى الآيةِ دليلٌ على أن فَرْضَ الابنتين الثُّلُثَانِ؛ لأنَّ في أوَّلِها ﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ ﴾، فَيقتضِي أنَّ للابنةِ الواحدة مع الابن الثُّلُثُ، فإنْ كان لها معهُ الثُّلُثُ كانت تأخذُ الثُّلُثَ مع عدمهِ أولَى، فاحْتَجْنَا إلى بيانِ حُكْمِ ما فوقَ الأُنثيين؛ فذلك نصٌّ على حُكْمِ ما فوقِهما، ويدلُّ عليه أنهُ اذا كانَ للابنِ الثُّلُثَانِ، وللابنةِ الثُّلُثُ دلَّ أن نصيبَ الأُنثيين الثُّلُثَانِ بحالٍ؛ لأنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ للذكرِ مثلُ حَظِّ الأُنثيين. وجوابٌ آخر: أنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ للأُخت من الأب والأمِّ النصفَ في آخرِ هذه السورة، كما جعلَ للابنة النصفَ في هذه الآيةِ، وجعلَ للأُختينِ هناك الثُّلُثَيْنِ، فأعطينَا الاثنين الثُّلُثَيْنِ قياساً على الأُختين في تلكَ الآيةِ؛ وأعطينَا جُمْلَةَ الأخواتِ الثُّلُثَين قياساً على البناتِ في هذه الآية. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ ﴾؛ أي لأَبَوَي الميِّت كنايةً عن غيرِ المذكور لكلِّ واحدٍ منهما السُّدُسُ؛ ﴿ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ﴾؛ أو وَلَدُ ابنٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ ٱلثُّلُثُ ﴾؛ أي إن لَم يكن للميِّت ولدٌ ذكَرٌ ولا أنثى، ولا وَلَدَ وَلَدٍ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ، والباقِي للأب. ورويَ عن ابن مسعودٍ: (أنَّ الْوََلَدَ يَحْجُبُونَ الأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ، وَإنْ لَمْ يَرِثُوا نَحْوَ أنْ يَكُونُوا كُفَّاراً أوْ مَمْلُوكِيْنَ أوْ قَاتِلِيْنَ؛ لأنَّ اللهَ لَمْ يُفَرِّقْ فِي الآيَةِ بَيْنَ الْوَلَدِ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ، فَقَالَ: (وَلأَبَوْيِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ). وقال عُمَرُ وَعَلِيٌّ وزيدُ بن ثابتٍ: (لِلأُمِّ الثُّلُثُ)، وجعلُوا الكافرَ والرقيقَ بمَنْزِلَةِ الميِّت، وحَمَلُوا الآيةَ على ولدِ يحوزُ الميراثَ. قرأ أهلُ الكوفةِ إلاّ عاصِماً وخَلَفاً: (فَلإِمِّهِ) بكسرِ الهمزة استثقالاً لِضَمَّةِ بعد كسرٍ. وقرأ الباقون بالضمِّ على الأصلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ ٱلسُّدُسُ ﴾؛ ذكرهُ بلفظِ الجمع، وأقلُّه ثلاثةٌ ولا خلافَ، وإن الحَجْبَ يقعُ بثلاثةٍ من الإخوةِ والأخوات وإن ذلكَ لا يقعُ بالواحدِ، ثم قالَ عامَّة الصحابةِ: (إنَّ حُكْمَ الاثْنَيْنِ فِي هَذا حُكْمُ الثَّلاَثَةِ كَمَا فِي أنْثَيَيْنِ وَالأُخْتَيْنِ). وعن ابنُ عبَّاس: (أنَّهُ كَانَ لاَ يَحْجُبُ الأُمَّ عَنِ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ بأَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ إخْوَةٍ)، وهذا القولُ غير مأخوذٍ بهِ. ورويَ عنهُ أيضاً: أنَّهُ جَعَلَ لِلابْنَتَيْنِ النِّصْفَ كَنَصِيْب الْوَاحِدَةِ بظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ ﴾ ولم يقل بهذا آخرٌ غيرهُ فلا يُعْتَدُّ به. وروي أنَّ جَدَّةً جَاءَتْ إلَى أبي بَكْرٍ رضي الله عنه، وَطَلَبَتْ مِيْرَاثَهَا؛ فَقَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: (لاَ أجِدُ لَكِ فِي كِتَابِ اللهِ شَيْئاً) فَقَامَ الْمُغِيْرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَشَهِدَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أعْطَى جَدَّةَ أمِّ الأُمِّ السُّدُسَ، فَقَالَ: (إئْتِ مَعَكَ بَشَاهِدٍ آخَرَ) فَجَاءَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَشَهِدَ بمِثْلِ شَهَادَتِهِ، فَأَعْطَى أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه السُّدُسَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ﴾؛ إنَّ هذه القسمةَ بعد فَضْلِ المالِ على الدَّين، وبعدَ إمضاءِ الوصيَّة من الثُّلُثِ إن كان الميتُ أوصى بها. قرأ ابنُ كثير وابن عامر: (يُوْصَى بهَا) بفتحِ الصَّاد. وقرأ الباقونَ بكسرِ الصَّاد. فإن قيلَ: كيفَ ذكَرَ اللهُ الوصيَّةَ قبلَ الدِّين؛ والدَّيْنُ مُقَدَّمٌ على الوصيَّةِ؟ قيل: إنَّ كلمة (أوْ) لا تُوجِبُ الترتيبَ، لكنَّها توجبُ تأخيرَ قِسْمَةِ الميراثِ في هذه الآية عن أحدِهما إذا انفردَ، وعن كلِّ واحد منهُما إذا اجتمعا. روى عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ" أنَّهُ قَضَى بالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ "وهذا شيءٌ قد اجتمَعَت عليه الأمَّةُ حتى رويَ عنِ ابن عبَّاس: أنه قيلَ لهُ: مَا لَنَا نُقَدِّمُ أفْعَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أفْعَالِ الْحَجِّ وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ ﴾[البقرة: ١٩٦]؟ كَمَا تُقَدِّمُونَ الدَّيْنَ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ﴾؛ معناهُ: إنَّ المذكورينَ في الآيَةِ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أيُّهُمْ أقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا في الدُّنيا ولا في الآخرةِ، أمَّا في الدُّنيا فقد يكونُ الولدُ أكثرَ نفعاً لوالدهِ، وقد يكونُ الوالدُ أكثرَ نفعاً لولدهِ. وأمَّا في الآخرةِ، فإنَّ الأبَ أرفعُ درجةً في الجنَّة يسألُ اللهَ تعالى أن يَرْفَعَ ابنه إليه فَيَرْفَعُ، وإنْ كان الابنُ أرْفَعَ سألَ اللهَ أن يرفعَ أباه إليه. وفي هذا جوابُ طعنِ الملحدينَ عن قولِهم: هَلاَّ كَانَ الرجالُ أوْلَى بالميراثِ لكونِهم قوَّامين على النِّساء؟ وعن جواب آخرين منهم لِمَ جازَ تفضيلُ الذكر على الأُنثى في قسمتِها الميراثَ؛ والأُنثى أوْلى بالزيادةِ بعجزِها عن التصرُّف؟ فبيَّن اللهُ تعالى أنهُ فَرَضَ الفرائضَ على ما هو عندهُ حكمةٌ ومصلحة لَهم، ولو وَكَّلَ ذلك إليكم لَمَا تَعْلَمُوا أيُّهم أنفعُ، فوضعتُم الأموالَ في غيرِ حكمةٍ. وقيل معناهُ: لا يدري أحدُكم أهوَ أقرب وفاةً فينتفعُ ولدُه بماله، أمِ الولدُ أقربُ وفاةً فينتفعُ والدهُ بماله. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ ﴾؛ نُصِبَ على الحال والتوكيدِ من قوله ﴿ يُوصِيكُمُ ﴾، وقيل: مصدرٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ﴾؛ أي لَمْ يَزَلْ عَالِماً بالمواريثِ وغيرها، حَكِيماً حين بيَّن قسمةَ المواريثِ على الحكمةِ. وعن الحسنِ أنَّ معناهُ: (كَانَ اللهُ عَالِماً بالأَشْيَاءِ قَبْلَ خَلْقِهَا، حَكِيماً فِيْمَا يُقَدِّرُ مِنْ تَدْبيْرِهِ فِيْهَا).