قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَٰتِ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس وابن جُبير وقتادةُ ومجاهد: (الطَّوْلُ الْغِنَى وَالسَّعَةُ) أي وَمن لم يستطِعْ منكم غِنىً وقدرةً، ولم يَجِدْ مَالاً يتزوجُ به الحرائرَ؛ فليتزوَّجْ بعضُكم من إمَاءِ بعضٍ. وقال جابرُ ابن زيد وربيعةُ والنخعيُّ: (الطَّوْلُ الْهَوَى) أي مَن لم يَقْدِرْ منكم على نكاحِ الحرائِرِ هوىً وعِشْقاً بأَمَةٍ من الإماءِ لا يتَّسِعُ قلبُه لنكاحِ الحرَّةِ، فليتزوَّج بالأَمَةِ التي يَهْوَاها من الإماءِ المؤمناتِ. قرأ الكسائيُّ: (الْمُحْصِنَاتِ) بكسرِ الصَّاد في كلِّ قراءةٍ إلاَّ الأوَّل وهو قولهُ:﴿ وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ ﴾[النساء: ٢٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِكُمْ ﴾؛ أي بحقيقةِ الإيْمان وأنتُم تعرفون الظَّاهِرَ، وليسَ عليكُم أنْ تبحَثُوا عن الباطنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ ﴾؛ أي في الدِّين، وقيلَ: مِنَ النَّسب؛ أي كلُّكم ولْدُ آدمَ عليه السلام، وإنَّما قالَ ذلك؛ لأن العربَ كانت تطعنُ في الأنسابِ، وتفخرُ بالأحسَابِ وتعيِّرُ بالْهُجْنَةِ، وتسمِّي ابنَ الأَمَة (الْهَجِيْنُ)، فأعلَمَ اللهُ أنَّ الأمَةَ في جواز نكاحِها كالحرَّة لذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾؛ أي انْكِحوا الإماء بإذنِ مَوَالِيْهِنَّ واعطوهُنَّ مهورَهن؛ يعني بإذنِ أهلهِنَّ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾؛ أي مهرٌ غيرُ مهرِ البغيِّ وهو أن يكون عشرةَ دراهِمَ فما فوقَها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٍ ﴾؛ أي عَفَائفَ غيرَ زَوَانٍ مُعْلِنَاتٍ بالزِّنا.
﴿ وَلاَ مُتَّخِذَٰتِ أَخْدَانٍ ﴾؛ أي أخِلاَّءَ في السِّرِّ؛ وذلك لأنَّ أهلَ الجاهليَّة كان فيهم زَوَانٍ بالعلانيَةِ لَهنَّ راياتٌ مضروبةٌ، وبعضُهن اتخذتْ أخْدَاناً في السِّرِّ حتَّى قال ابنُ عبَّاس: (كَانَ فِيْهِمْ مَنْ يُحَرِّمُ مَا ظَهَرَ مِنَ الزِّنَا، وَيَسْتَحِلُّ مَا خَفِيَ فِيْهِ، فَنَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْ نِكَاحِ الْفَرِيْقَيْنِ جَمِيْعاً.)قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ ﴾؛ معناه: أن الإماءَ إذا أسلمْنَ وتزوَّجن، ومن قرأ (أُحْصِنَّ) بضمِّ الهمزة فمعناهُ: اذا زُوِّجْنَ وأُحْصِنَّ بالأزواجِ.
﴿ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ ﴾ يعني الزِّنا فَعَلَيْهِنَّ نصفُ قَدْر الحرائرِ: خمْسُونَ جَلْدَةً. والمرادُ بهذه الآيةِ: نصفُ الجلدِ؛ لأن الرجمَ لا نصفَ له. وذهبَ عامَّةُ الفقهاءِ إلى أنَّ الإسلامَ والتَّزَوُّجَ لا يكونَا شرطاً في وجوب الجلدِ على الأمَةِ؛ فإنَّها وإن لم تكن مُحْصَنَةً بالإِسلامِ والتزويجِ أقِيْمَ عليها نِصْفُ حَدِّ الْحُرَّةِ إنْ زَنَتْ؛ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:" إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا؛ ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا؛ ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَبعْهَا "واستدلُّوا بما رُوي عن أبي هُريرة رضي الله عنه عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:" أنَّهُ سُئِلَ عَنِ الأَمَةِ إذا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ (فَبيْعُوهَا) "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ ﴾؛ أي تزويجَ الإماءِ والرِّضا بنكاحهنَّ عند عدمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ لمن خَشِيَ الزِّنا منكُم، وقيل: لِمَنْ خَشِيَ الضررَ في الدَّين والدنيا.
﴿ مِنْكُمْ ﴾؛ عن نكاحِ الإمَاءِ.
﴿ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾، وإنَّما قالَ ذلكَ؛ لأن ولدَ الأمةِ رقِيْقاً لِمَوْلَى الأمَةِ، ولهُ استخدامُ الأمَةِ في الحاجاتِ وبين أيدِي الرِّجال الأجانب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾؛ أي غَفُورٌ لِما أصبتُم من الْحُرُمَاتِ يَغْفِرُ لَكُم بعد التوبةِ، رَحِيْمٌ لا يُعَجِّلُ بالعقوبةِ على المذنبين. فإن قِيْلَ: ما فائدةُ شرطِ الإحصان في قولهِ تعالى: ﴿ فَإِذَآ أُحْصِنَّ ﴾ والأَمةُ تُحَدُّ حَدَّ الزنا سواءٌ كانت مُحَصَنَةً بالإسلامِ والزوجِ أم لا؟ قيلَ: فائدةُ ذكر إحصان الإماء في الآيةِ: أنَّ حدَّ الحرَّةِ يختلفُ بالإحصان وعدمِ الإحصان، فكان يجوزُ أن يَتَوَهَّمَ مُتَوَهَّمٌ أنَّ حدَّ الأمةِ يختلفُ أيضاً بالإحصانِ بالإسلام والزوجِ، كما يختلفُ حدُّ الحرَّة بذلك؛ فأوجبَ الله تعالى ذلك الحدَّ بالْجَلدِ في الحالة التي يوجبُ فيها الرجمَ على الحرَّةِ؛ لَيُعْلِمَ أنَّ الإماءَ لا مُدْخَلَ لَهن في الرجمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ ﴾ الْفَتَاةُ في اللغة: الشَّابَّةُ؛ إلاّ أنَّ الأمَةَ تسمى فتاةً؛ عجوزاً كانت أم شَابَّة؛ لأنَّها لا تُوَقَّرُ تَوَقُّرَ الحرَّة الكبيرةِ. والأخْدَانُ: جمع الْخِدْنِ؛ والْخَدِيْنُ: الصَّدِيْقُ. والعَنَتُ في اللغةِ: الْمَشَقَّةُ، ويسمَّى الزنا بهِ لأن فاعلَهُ يلقَى الإثْمَ العظيمَ في الآخرة، ويقامُ عليه الحدُّ في الدُّنيا. وقد تعلَّق أصحابُ الشَّافِعِيِّ بظاهرِ هذه الآيةِ؛ فقالوا: إذا كان عندَ الرجلِ من الْمال ما يُمَكِّنُهُ أنْ يتزوجَ به الحرَّةَ؛ لا يجوزُ له أن يتزوَّجَ أكثرَ من أمَةٍ واحدة. وقالوا: ويجوزُ للعبدِ أن يتزوَّجَ الأمَةََ. قالوا: لا يجوزُ أن يتزوجَ الأمةَ اليهوديَّةَ ولا النصرانيَّةَ، ولا يجوزُ أن يتزوجَ أكثرَ من أمةٍ واحدة. قالُوا: ويجوزُ للعبدِ أن يتزوجَ أمةً على الحرَّةِ؛ لأن هذهِ الآيةَ خطابٌ للأحرار، قالَ اللهُ تعالى: ﴿ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم ﴾.
وليست هذه الآيةُ عند أصحابنا على طريقةِ الشَّرط، ولكن معنَاها: مَن لم يَبْسُطِ اللهُ له في الرِّزْقِ فَلْيَرْضَ بما قَسَمَ اللهُ له، وَلْيَعْقِدْ أدونَ نكاحين إن لم يقدِرْ على أعلاهُما، وفي قولهِ ﴿ مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ ﴾ بيانُ أنَّ المؤمنةَ خيرٌ من الحرَّة الكتابيَّة، ولو كان جوازُ نكاحَ الأمة للحرِّ مقيَّداً لحال الضرورة وخَوْفِ العَنَتِ لكانَ الحرُّ إذا تزوجَ حرَّةً على الأمَةِ يبطلُ نكاحُ الأمَةِ، وَلا خِلاَف إنْ كان نكاحُ الحرَّةِ إذا طرأ على نكاحِ الأمة لم يبطُلِ النكاحُ. وعن أبي يوسُفَ أنهُ تأوَّلَ هذه الآية: على أنَّ وجودَ الطَّوْلِ هو كَوْنُ الحرَّةِ في نكاحهِ على ما وردَ به الحديثُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قال:" لاَ تُنْكَحُ الأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ، وتُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى الأَمَةِ "وهذا تَأْويلٌ صحيحٌ؛ لأن مَن لا يكونُ عندَه حرَّةٌ فهو غيرُ مستطيعٍ للطَّوْلِ إليها؛ لأن القدرةَ على الْمالِ لم يوجِبْ له مِلْكَ الوطئ إلاَّ بعدَ وجودِ النكاحِ.