قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ﴾؛ أي تركنَاكم فلم نَسْتَأْصِلْكُمْ؛ مِن قوله عليه السلام:" إعْفُواْ اللِّحَى "وقيل: مَحَوْنَا ذنوبكم من قول العرب: عَفَتِ الرياحُ الْمَنْزلَ فَعَفَا. وقولهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ﴾؛ أي مِن بعدِ عبادتِكم العجلَ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾؛ أي لكي تشكُروا عَفْوِي عنكم وصَنِيْعِي إليكم. واختلفَ العلماء في ماهية الشُّكر؛ فقال ابنُ عباس: (هُوَ الطَّاعَةُ بِجَمِيْعِ الْجَوَارحِ لِرَب الْخَلاَئِقِ فِي السِّرِّ وَالْعَلاَنِيَةِ). وقال الحسنُ: (شُكْرُ النِّعْمَةِ ذِكْرُهَا). وقال الفضيل: (شُكْرُ كُلِّ نِعْمَةٍ أنْ لاَ يُعْصَى اللهُ تَعَالَى بَعْدَهَا). وقال أبو بكرٍ الرازي: (حَقِيْقَةُ الشُّكْرِ مَعْرِفَةُ الْمُنْعِمِ؛ وَأنْ لاَ تَعْرِفَ لِنَفْسِكَ فِي النِّعْمَةِ حَظّاً؛ بَلْ تَرَاهَا مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ). قالَ الله:﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ﴾[النحل: ٥٣].
ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:" قَالَ مُوسَى: يَا رَب كَيْفَ آدَمُ أنْ يُؤَدِّي شُكْرَ مَا أجْرَيْتِ عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ؟ خَلَقْتَهُ بيَدِكَ؛ وأسْجَدْتَ لَهُ مَلاَئِكَتَكَ؛ وَأسْكَنْتَهُ جَنَّتَكَ. فَأَوْحَى اللهُ إلَيْهِ: أنَّ آدَمَ عَلِمَ أنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنِّي وَمِنْ عِنْدِي؛ فَذَلِكَ شُكْرُهُ ". وقال الجنيدُ: حقيقةُ الشكر العجزُ عن الشكر. وقال بعضهم: الشكرُ أن لا ترى النعمةَ البتة؛ بل ترى المنعمَ. وقال أبو عثمان الْحَيِّرِي: صدقُ الشكر أن لا تَمدح بلسانك غير المنعمِ. وروي عن الشِّبل أنه قالَ: الشكر التواضعُ تحتويه المنَّة. وقيل: الشكرُ خمسة أشياءِ: مجانبةُ السيئات؛ والمحافظةُ على الحسناتِ؛ ومخالفة الشهوات؛ وبذلُ الطاعات؛ ومراقبة رب السماوات. وسُئل أبو الحسن علي بن عبدالرحيم: مَن أشكرُ الشاكرين؟ فقال: الطاهرُ من الذنوب يعدُّ نفسه من المذنبين؛ والمجتهدُ بعد أداءِ الفرائض يعدُّ نفسه من المقصِّرين؛ والراضي من الدنيا بالقليلِ يعدُّ نفسه من الراغبين؛ والقاطعُ بذكر الله دهرَهُ يعدُّ نفسه من الغافلينَ؛ هذا أشكرُ الشاكرين.