قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ ﴾؛ أراد به الْمَنَاسِكَ؛ أي لا تَسْتَحِلُّوا مخالفةَ شيءٍ منها، ولا تجاوزُوا مواقيتَ الحرمِ غيرَ مُؤَدِّيْنَ حقوقَها؛ وذلك: أنَّ الأنصارَ كانوا لا يَسْعَوْنَ بين الصَّفَا والمروةِ، وكان أهلُ مكَّة لا يخرجونَ إلى عَرَفَةَ فأمرَ اللهُ تعالى أنْ لا يترُكُوا شيئاً من الْمَنَاسِكِ. وقال الحسنُ: (شَعَائِرُ اللهِ دِيْنُ اللهِ)؛ أيْ لاَ تُحِلُّوا فِي دِيْنِ اللهِ شَيْئاً مِمَّا لَمْ يُحِلَّهُ اللهُ. ويقالُ: هي حدودُ اللهِ في فرائضِ الشرعِ. والشَّعَائِرُ في اللغة: الْمَعَالِمُ، والإشْعَارُ: الإعْلاَمُ، وَالشَّعِيرَةُ وَاحِدَةُ الشَّعَائِرِ؛ وهِيَ كُلُّ مَا جُعِلَ عَلَماً لِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ ﴾؛ أي ولا تَسْتَحِلُّوا القَتْلَ والغارَةَ في الشَّهرِ الحرامِ، وأرادَ بذلك الأشهُرَ الْحُرُمَ كلَّها؛ وهي رَجَبٌ؛ وذُو الْقَعْدَةِ؛ وذُو الْحِجَّةِ؛ وَالْمُحَرَّمُ، إلاَّ أنه ذُكِرَ باسمِ الجنس كما في قولهِ تعالى:﴿ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ﴾[العصر: ٢] أرادَ به جِنْسَ الإنسانِ، ولذلك استثنَى المطيعَ بقوله:﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾[العصر: ٣].
وكان في ابتداءِ الإسلامِ لا تجوزُ المُحَارَبَةُ في الأشهرِ الْحُرُمِ كما قالَ تعالى:﴿ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾[البقرة: ٢١٧]، ثم نُسِخَ حرمةُ القتال في الشهرِ الحرام بقولهِ تعالى:﴿ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾[التوبة: ٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ ﴾؛ أي لا تُحِلُّوا الْهَدْيَ؛ أي لا تَذْبَحُوهُ قَبْلَ مَحِلِّهِ؛ ولا تنتفِعُوا بهِ بعدَ أن جعلتموهُ للهِ، ولا تَمنعوهُ أن يَبْلُغَ البيتَ. قَوْلُهَ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ ﴾ أي ولا تُحِلُّوا القلائدَ التي تكونُ في أعناقِ الهدايا؛ أي لا تقطعُوها قبلَ الذبْحِ وتصدَّقوا بها بعدَ الذبحِ كما قالَ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ رضي الله عنه:" تَصَدَّقُوا بجَلاَلِهَا وَخِطَامِهَا، وَلاَ تُعْطِي الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئاً "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ ﴾؛ معناهُ: ولا تسْتَحِلُّوا القَتْلَ والغارةَ على القاصدينَ المتوجِّهين نحوَ البيتِ الحرامِ، وعنِ ابن عبَّاس رضي الله عنه:" أنَّ الآيَةَ وَرَدَتْ في شُرَيْحِ بْنِ ضُبَيْعَةَ بْنِ هِنْدِ الْيَمَامِيِّ، دَخَلَ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالْمَدِيْنَةِ وَقَالَ: أنْتَ مُحَمَّدٌ النَّبيُّ؟ قَالَ: " نَعَمْ " قَالَ: إلاَمَ تَدْعُو؟ قالَ: " أدْعُو إلَى شَهَادَةِ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ؛ وَأنِّي رَسُولُ اللهِ ". فَقَالَ: إنَّ لِي أمَرَاءَ أرْجِعُ إلَيْهِمْ وَأشَاورُهُمْ، فَإنْ قَبلُوا قَبلْتُ. ثُمَّ انْصَرَفَ مِنْ عِنْدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: " لَقَدْ دَخَلَ بوَجْهِ كَافِرٍ وَخَرَجَ بعَقِبَي غَادِرٍ ". فَمَرَّ بسَرْحٍ لأَهْلِ الْمَدِيْنَةِ فَاسْتَاقَهَا، وَانْطَلَقَ نَحْوَ الْيَمَامَةِ وَهُوَ يَرْتَجِزُ يَقُولُ:* بَاتُوا نِيَاماً وَابْنُ هِنْدٍ لَمْ يَنَمْ * بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلاَمٌ كَالزُّلَمْ ** خَدَلَّجُ السَّاقَينَ خَفَّاقُ الْقَدَمْ * قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بسَوَّاقٍ حُطَمْ ** لَيْسَ برَاعِي إبلٍ وَلاَ غَنَمْ * وَلاَ بجزَّار عَلَى ظَهْرِ وَضَمْ ** هَذا أوَانُ الْحَرْب فَاشْتَدِّي زَلَمْ *وَقَدْ كَانَ عِنْدَ دُخُولِهِ عَلَى النَّّبيِّ صلى الله عليه وسلم خَلَّفَ خَيْلَهُ خَارجَ الْمَدِيْنَةِ وَدَخَلَ وَحْدَهُ. فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْقَابلِ؛ خَرَجَ شُرَيْحُ نَحْوَ مَكَّةَ فِي تِجَارَةٍ عَظِيْمَةٍ فِي حُجَّاجِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ مِنْ أهْلِ الْيَمَامَةِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُغِيْرُ بَعُضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإذا كَانَ أشْهُرُ الْحَجِّ أمِنَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعضاً، وَإذا سَافَرَ أحَدُهُمْ فِي غَيْرِ الأَشْهُرِ الْحُرُمِ نَحْوَ مَكَّةَ قَلَّدَ هَدْيَهُ مِنَ الشَّعْرِ وَالْوَبَرِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَدْيٌ قَلَّدَ رَاحِلَتَهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ رَاحِلَةٌ جَعَلَ فِي عُنُقِهِ قِلاَدَةً، وَكَانُوا يَأْمَنُونَ بذلِكَ، فَإذا رَجَعُوا مِنْ مَكَّةَ جَعَلُوا شَيْئاً مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الْحَرَمِ فِي عُنُقِ الرَّاحِلَةِ فَيْأْمَنُوا، فَلَمَّا سَمِعَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بخُرُوجِ شُرَيْحٍ وَأصْحَابهِ اسْتَأْذنُوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً ﴾؛ في موضعِ نَصْبٍ على الحالِ، معناهُ: قَاصِدِيْنَ طالِبينَ رزْقاً بالتِّجارةِ.
﴿ وَرِضْوَاناً ﴾ أي رضىً مِن اللهِ تعالى عَلَى عَمَلِهِمْ، وَلاَ يرضَى عنهم حتَّى يُسْلِمُوا. وقال الحسنُ وقتادةُ: (مَعْنَى رضْوَاناً؛ أيْ يَرْضَى اللهُ عَنْهُمْ؛ فَيُصْلِحُ مَعَاشَهُمْ وَيَصْرِفُ عَنْهُمْ الْعُقُوبَاتِ فِي الدُّنْيَا إذا كَانُوا لاَ يُقِرُّونَ بالْبَعْثِ، ثُمَّ نُسِخَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذلِكَ تَعَرُّضَ الْمُشْرِكِيْنَ بقَوْلِهِ تَعَالَى:﴿ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾[التوبة: ٥] كَافَّةً، وَبقَوْلِهِ تَعَالَى:﴿ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا ﴾[التوبة: ٢٨]). وقرأ الأعمشُ (وَلاَ آمِّينَ) أي البيتَ الحرامَ بالإضافةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ ﴾؛ أي لا يحملَنَّكم ويكسبنَّكم بُغْضُ قومٍ وعداوتُهم بأن صرفوكُم عامَ الْحُدَيْبيَةِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ على أن تَظْلِمُوهُمْ، وتتجاوزُوا الحدَّ للمكافأةِ. وموضع: ﴿ أنْ تَعْتَدُوا ﴾ نَصْبٌ لأنه مفعولٌ، و ﴿ أَنْ صَدُّوكُمْ ﴾ مفعولٌ لهُ، كأنهُ قال: لا يَكْسِبَنَّكُمْ بغضُ قومٍ الاعتداءَ عليهم بصدِّهم إيَّاكم. قرأ أهلُ المدينةِ إلاَّ قالون ابنَ عامرٍ والأعمش: (شَتْآنُ) بجزمِ النُّون الأُولى. وقرأ الآخرون بالفَتْحِ وهُما لُغتان؛ إلاّ أنَّ الفتحَ أجودُ لأنه أفْهَمُ اللُّغتين، ولأنَّ المصادِرَ أكثرُ ما تجيءُ على (فَعَلاَنُ) مثل النَّفَيَانِ وَالرَّتَقَانِ والعَسَلاَنِ ونحوُ ذلك. قال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَى: ﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ ﴾ أيْ وَلاَ يَحْمِلَنَّكُمْ). وقال الفرَّاءُ: (وَلاَ يَكْسِبَنَّكُمْ)، قال: (يُقَالُ: فُلاَنٌ جَرِيْمَةُ أهْلِهِ؛ أيْ كَاسِبُهُمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَن صَدُّوكُمْ ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرو بكسرِ الألفِ على الاستئناف والجزاءِ، وقرأ الباقون بالفتحِ؛ أي لئن صَدُّوكُمْ، والفتحُ أجودُ؛ لأن الصَدَّ كان وَاقِعاً من الكفَّار يومَ الحديبيةِ قبل نُزُولِ هذه السورةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ ﴾؛ أي تَحَاثُّوا على الطَّاعةِ وترك المعصيةِ، قال أبو العاليَةِ: (الْبِرُّ: مَا أمِرْتَ بهِ، وَالتَّقْوَى: تَرْكُ مَا نُهِيْتَ عَنْهُ). وظاهرُ الأمرِ يقتضي وجوبَ المعاونةِ على الطَّاعةِ، وظاهرُ الأمرِ على الوُجُوب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ ﴾؛ أي لا يُعِنْ بعضُكم بعضاً على شيءٍ من المعاصي والظُّلْمِ، وقال بعضُهم: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الإثْمِ وَالْبرِّ؛ فَقَالَ:" الْبرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالإثْمُ: مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾؛ أي اخْشَوْهُ وأطيعوهُ فيما أمرَكم به ونَهاكم عنه.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾ إذا عَاقَبَ، فعقابهُ شديدٌ.