قولهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ ﴾؛ الْمَيْتَةُ: اسمٌ لِكُلِّ ذِي رُوحٍ فَارَقَهُ رُوحُهُ حَتْفَ أنْفِهِ، والمرادُ بالدَّمِ: الدَّمُ الْمَسْفُوحُ، وحُرِّمَ عليكُم لَحْمُ الْخِنْزِيْرِ لِعَيْنِهِ لا لكونهِ ميتةً حتى لا يحلَّ تناولهُ مع وجودِ الذكاةِ فيه. وفائدةُ تخصيصِ لَحْمِ الْخِنْزِيْرِ بالْذِّكْرِ دونَ لحمِ الكلب وسائرِ السَّباعِ: أنَّ كثيراً من الكُفَّار ألِفُوا لحمَ الْخِنْزِير، واعتادُوا أكلَهُ وأوْلِعُوا به ما لَمْ يعتادُوا بهِ أكلَ غيرهِ. وَقِيْلَ: فائدتهُ: أنَّ مُطْلَقَ لفظِ التحريم يدلُّ على نجاسةِ عَيْنِهِ مع حُرْمَةِ أكلهِ، ولحمُ الخنْزِيرِ مختصٌ بهذا الحُكْمِ؛ وذلكَ: أنَّ سائرَ الحيواناتِ الْمُحَرَّمِ أكلُها إذا ذُبحَتْ كان لحمُها طاهراً لا يفسدُ الماءُ إذا وقعَ فيه، وإنْ لم يَحِلَّ أكلهُ بخلافِ لحم الْخِنْزِيْرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ ﴾ أي وحُرِّمَ عليكم ما ذُكِرَ عليه عندَ الذبْحِ اسمُ غيرِ الله، وذلك أنَّهم كانوا يذبحونَ لأصنامِهم يتقرَّبون بذبْحِها إليهم، فََحَرَّمَ اللهُ كلَّ ذبيحةٍ يُتَقَرَّبُ بذبحِها إلى غيرِ الله تعالى، ولذلك قالَ الفُقَهَاءُ: إنَّ الذابحَ لو سَمَّى النبيَّ صلى الله عليه وسلم معَ اللهِ تعالى فقالَ: بسمِ اللهِ ومُحَمَّدٍ؛ حَرُمَتِ الذبيْحَةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ ﴾؛ أي حُرِّمَ عليكم أكلُ لحم الْمُنْخَنِقَةِ؛ وهي التي تَنْخَنِقُ بحَبْلٍ أوْ شَبَكَةٍ فَتَمُوتُ مِنْ غَيْرِ ذكَاةٍ، وأمَّا الْمَوْقُوذةُ؛ فهي الْمَضْرُوبَةُ بالْخَشَب حتَّى تَمُوتَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ ﴾ هي التي تَتَرَدَّى من جَبَلٍ أو سَطْحٍ أو فِي بئْرٍ فَتَمُوتُ قَبْلَ الذكَاةِ. وَالتَّرَدِّي: هُوَ السُّقُوطُ، مأخوذٌ من الرِّدَاءِ وهو الْهِلاَكُ، قال صلى الله عليه وسلم لِعَدِيِّ بْنِ حَاتَمٍ:" إذا تَرَدَّتْ رَمْيَتُكَ مِنْ جَبَلٍ فَوَقَعَتْ فِي مَاءٍ فَلاَ تَأْكُلْ؛ فَإنَّكَ لاَ تَدْري أسَهْمُكَ قَتَلَهَا أمِ الْمَاءُ "فصارَ هذا الكلامُ أصلاً في كلِّ موضعٍ اجتمعَ فيه معنيان: أحدُها حَاظِرٌ، والآخرُ مبيحٌ فأنَّهُ تَغْلُبُ جِهَةُ الْحَظْرِ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:" الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أمُورٌ مُشَبَّهَةٌ، فَدَعْ مَا يُرِيْبُكَ إلَى مَا لاَ يُرِيْبُكَ، ألاَ وَإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمىً، وَإنَّ حِمَى اللهِ مَحَارمُهُ، فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوْشِكُ أنْ يَقَعَ فِيْهِ "وعن عمرَ رضي الله عنه أنه قالَ: (كُنَّا نَدَعُ تِسْعَةَ أعْشَار الْحَلاَلِ مَخَافَةَ الرِّبَا). قوله عزّ وَجَلَّ: ﴿ وَٱلنَّطِيحَةُ ﴾؛ هي التي تُنْطَحُ حتى تَموتَ، وإذا تناطحتِ الحيواناتُ فَقَتَلَ بعضُها بعضاً في النِّطَاحِ فهي حرامٌ بالآية، قال ابنُ عبَّاس: (كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَخْنُقُونَ الشَّاةَ حَتَّى إذا مَاتَتْ أكَلُوهَا وَكَذلِكَ الْمَوْقُوذةُ)، قال قتادةُ: (كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَضْرِبُونَ الشَّاةَ بالبَعْضِ حَتَّى إذا مَاتَتْ أكَلُوهَا)، يقالُ منهُ: وَقَدَهُ يَقِدُهُ إذا ضَرَبَهُ حتى أشفاَ على الهلاكِ. قال الفَرَزْدَقُ: شَغَارَةٌ تَقِذُ الْفَصِيلَ برجْلِهَا فَطَّارَةٌ لِقَوَادِم الأَبْكَارقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ النَّطِيحَةُ ﴾ إنَّما دخلَت الهاءُ فيها وإنْ كان الفعلُ بمعنى المفعولِ يُسَوَّى فيه المذكَّرُ والمؤنَّثُ كقولهم: لِحْيَةٌ دَهِيْنٌ وعينٌ كَحِيلٌ وكفٌّ خَضِيبٌ؛ لأنَّ النطيحةَ لم يتقدَّمُها اسم، فلو أسقطتِ الهاء منها لم يُدْرَ أهيَ مذكَّرٌ أم مؤنثٌ، فنظيرُ ذلك لو قيلَ: شاةٌ نطيحٌ لم تذكَّر الهاء المذكَّرُ الشاة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ ﴾؛ وقرأ ابن أبي زائدةَ: (وَأَكِيْلَةُ السَّبُعِ). وقرأ الحسنُ وطلحة: (السَّبْعُ) بسكون الباءِ وهي لغةٌ في السَّبُعِ، ومعنى قولهِ تعالى: ﴿ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ ﴾ هو فَرِيْسَتُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ﴾؛ أي إلاّ ما ذكَرْتُمْ ذكاتَهُ مما أكلَ منهُ السَّبعُ فذكَّيتُم، فإنَّ ذلك يحلّ لكم، أو ما أبيْنَ من الصَّيدِ قبلَ الذكَاةِ فهو ميِّتٌ، ويحتملُ أن يكون قوله تعالى: ﴿ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ﴾ راجعاً إلى الْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيْحَةِ وَمَا أكَلَ السَّبُعُ، فإنَّها كلَّها في الحكمِ بمعنى واحدٍ. وعن الحسنِ أنهُ كان يقولُ في هذه الجملةِ: (إذا طَرَفَتْ بعَيْنِهَا؛ أوْ وَكَصَتْ برِجْلِهَا؛ أوْ حَرَّكَتْ بَدَنَهَا فَذَكَّهَا وَكُلْ). وشَرَطَ أكثرُ العلماءِ في إباحة أكلِها بالذكاةِ: أن تكونَ حياتُها وقتَ الذكاةِ أكثرَ من حياةِ المذبوحِ، فإن كانت بهذه الصِّفةِ أثَّرَتِ الذكاةُ في إباحَتِها وإلاّ فَلاَ. والتَّذْكِيَةُ: تَمَامُ فَرْيِ الأَوْدَاجِ وَإنْهَار الدَّمِ، ومنهُ الذكَاءُ في الفَمِ إذا كانَ تَامَّ الْعَقْلِ، وذكَّيْتُ النَّارَ إذا أتْمَمتَ إشعالَها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ ﴾؛ أي وَحُرِّمَ عليكم مَا ذُبحَ عَلَى النُّصُب، هي جمعُ النَّصْب، والنِّصَابُ: وهي الحِجَارَةُ، كانوا يَنْصِبُونَهَا فَيَعْبُدُونَهَا من دونِ اللهِ تعالى ويُقَرِّبُونَ لها الذبائحَ، والفرقُ بين النُّصُب والأصنامِ: أنَّ الصنَمَ اسمٌ لِما كان على صُورةِ الإنسانِ، والنُّصُبُ ما لاَ نَقْشَ لهُ ولا صورةَ ولكنه يُعْبَدُ. والوَثَنُ ما كان مَنْقُوشاً، والحائِطُ لا شخصَ لهُ. وَقِيْلَ: النُّصُبُ وَاحِدٌ وجمعهُ أنْصَابٌ، مثلُ عُنُقٍ وأعنَاقٍ. وقرأ الحسنُ بن صالحٍ وطلحةُ بن مصرف: (عَلَى النُّصْب) بجزم الصاد، وقرأ الجحدريُّ: بفتح النونِ والصادِ؛ جعلهُ اسْماً موحداً كالجبَلِ والجَمَلِ، والجمعُ الأنْصَابُ كالأَجْبَالِ والأجْمَالِ، وكلُّها لغاتٌ وهي الشيءُ المُنَصَّبُ، ومنهُ قولهُ تعالى:﴿ كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ ﴾[المعارج: ٤٣].
واختلفُوا في معنى النُّصُب ها هنا؛ قال ابن جُريج ومجاهدُ وقتادة: (كَانَ حَوْلَ الْبَيْتِ ثَلاَثُمِائَةٍ وَسُتُّونَ حَجَراً، وَكَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا، ويُشَرِّحُونَ اللَّحْمَ عَلَيْهَا، وَكَانُوا يُعَظِّمُونَهَا وَيَعْبُدُونَهَا وَيذْبَحُونَ لَهَا، وَكَانُوا مَعَ هَذا يُبْدِلُونَهَا إذا رَأوا حِجَارَةً هِيَ أعْجَبُ إلَيْهِمْ مِنْهَا). وَقَالُوا: (لَيْسَتْ أصْنَاماً إنَّمَا الصَّنَمُ مَا يُنْقَشُ). وقال آخرون: النُّصُبُ هي الأصنامُ الْمَنْصُوبَةُ. قال الأعشَى: وَذا النُّصُبَ الْمَنْصُوبَ لاَ تَنْسُكَنَّهُ وَلاَ تَعْبُدِ الأَوْثَانَ وَاللهَ فَاعْبُدَاقال قُطْرُبُ: (مَعْنَى الآيَةِ: وَمَا يُذْبَحُ لِلنُّصُب؛ أيْ لأَجْلِهَا، وَاللاَّمُ وَ (علَى) يَتَعَاقَبَانِ فِي الْكَلاَمِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ فَسَلاَمٌ لَّكَ ﴾[الواقعة: ٩١] أيْ عَلَيْكَ، وَقَالَ تَعَالَى:﴿ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾[الاسراء: ٧] أيْ فَعَلَيْهَا). وقال بعضُهم: معناهُ: وما ذُبحَ على اسمِ النُّصُب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ ﴾؛ وهي القِدَاحُ؛ أي حُرِّمَ عليكم الاسِتِقْسَامُ؛ وهُوَ طَلَبُ الْقَسَمِ بالأَزْلاَمِ؛ وَهِيَ الْقِدَاحُ الَّتِي كَانُوا يَجلِبُونَهَا عِنْدَ الْعَزْمِ عَلَى الْمَيْسِرِ ويقتسمونَ بها لَحْمَ الْجَزُور على ما تقدم ذكره في قوله تعالى:﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ ﴾[البقرة: ٢١٩].
وقال الحسنُ: (كَانُوا يَتَّخِذُونَ السِّهَامَ؛ فَإذا أرَادَ الرَّجُلُ أنْ يَخْرُجَ إلَى سَفَرِ أوْ تِجَارَةٍ أوْ سَرُوحٍ؛ أجَالَ السِّهَامَ بيَدِهِ، وَكَانَ مَكْتُوباً عَلَى بَعْضِهَا: أمَرَنِي رَبي، وَعَلَى بَعْضِهَا: نَهَانِي رَبي، فَإنْ خَرَجَ الَّذِي عَلَيْهِ: أمَرَنِي رَبي؛ قَالَ: قَدْ أُمِرْتُ بالْخُرُوجِ وَلاَ بُدَّ لِي مِنْ ذلِكَ؛ فَيَخْرُجُ، وَإنْ كَرِهَ الْخُرُوجَ خَرَجَ غَيْرَ بَعِيْدٍ ثُمَّ رَجَعَ، ولاَ يَدْخُلُ مِنْ بَاب بَيْتِهِ، وَلَكِنْ يَنْقُبُ ظَهْرَ بَيْتِهِ مِنْهُ يَدْخُلُ وَمِنْهُ يَخْرُجُ إلَى أنْ يَتَّفِقَ لَهُ الْخُرُوجُ. وَإنْ خَرَجَ الَّذِي عَلَيْهِ: نَهَانِي رَبي، قَالَ: قَدْ نُهِيْتُ عَنِ الْخُرُوجِ، وَلاَ يَسْعُنِي. فَنَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْ ذلِكَ). فعلى هذا لا يجوزُ أن يكونَ معنى الاسْتِقْسَامِ طلبَهم في الخروجِ والجلوسِ، والخروج في قَسْمِ الرِّزْقِ والحوائجِ، وظاهرُ هذه الآية يقتضِي أنَّ العملَ على قولِ الْمُنَجِّمِيْنَ: لا تخرجُ من أجلِ نَجْمِ كذا؛ وَاخْرُجْ من أجلِ نَجْمِ كَذا؛ فِسْقٌ لأنَّ ذلكَ دُخُولٌ فِي عِلْمِ الْغَيْب، وَلاَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ إلاّ اللهُ. وَمَعْنَى الفِسْقُ: الخروجُ من الطاعةِ؛ وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ ﴾؛ إشارةٌ إلى ما تقدَّم ذكرهُ من المعاصي والحرامِ. قُوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ ﴾ في موضعِ رَفْعٍ؛ أي وَحُرِّمَ عليكُم الاستقسامُ بالأزلامِ، والأزْلاَمُ: هِيَ الْقِدَاحُ الَّتِي لاَ ريْشَ لَهَا وَلاَ نَصْلَ، وَاحِدُهَا زُلَمٌ، مثلُ عُمَرَ وَزُفَرَ، وَقِيْلَ: زَلَمٌ مثلُ قَلَمٍ. وقال ابنُ جُبير: (هِيَ حَصَى بَيْضَاءَ كَانُوا يَضْرِبُونَ بهَا). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ يَوْمَ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ ومَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَهُوَ يَوْمُ الْفَتْحِ، يَئِسَ الْكُفَّارُ يَوْمَئِذٍ مِنْ رُجُوعِ الْمُسْلِمِيْنَ إلَى دِيْنِهْم بمَا ظَهَرَ مِنْ عُلُوِّ الإسْلاَمِ وَالْمُسْلِمِيْنَ عَلَى سَائِرِ الأَدْيَانِ). وقال بعضُهم: أراد به يَوْمَ حَجَّةِ الوداعِ، وقال الحسنُ: (أرَادَ بالْيَوْمِ جَمِيْعَ زَمَانِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَصْرِهِ، كَمَا يُقَالُ: كَانَتْ حَادِثَةُ كَذا فِي يَوْمِ فُلاَنٍ، يُرَادُ بهِ عَصْرُهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِْ ﴾؛ أي لِيَكُنْ خوفكُم للهِ وحدَه؛ فقد أمِنْتُمْ، وحوَّلَ الله الخوفَ الذي كان يلحقُكم إليهم بإظهار الإسلامِ. وَقِيْلَ معناهُ: لا تَخْشَوْهُمْ بإظهار تحريم ما كانوا يُبيْحُونَهُ، وأسرِعُوا في تركِ إظهار الْمُحَرَّمَاتِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ؛ وَالنَّاسُ وُقُوفٌ رَافِعُونَ أيْدِيَهُمْ بالدُّعَاءِ، فَبَرَكَتْ نَاقَةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ ثِقَلِ هَذِهِ الآيَةِ بَعْدَ أنْ كَادَ عَضُدُهَا يَنْدَقُّ، وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا آيَةُ حَلاَلٍ وَلاَ حَرَامٍ، وَعَاشَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَهَا وَاحِداً وَثَمَانِيْنَ يَوْماً، ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ تَعَالَى إلَى رَحْمَتِهِ). قال طارقُ بنُ شِهابٍ: (جَاءَ يَهُودِيٌّ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه فَقَالَ: يَا أمِيْرَ الْمُؤْمِنِيْنَ! آيَةٌ تَقْرَأونَهَا لَوْ أنْزِلَتْ عَلَيْنَا لاتَّخَذْنَا يَوْمَ نُزُولِهَا عِيْداً، فَقَالَ: وَأيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: ﴿ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾ الآيَةُ، قَالَ عُمَرُ: هَلْ عَلِمْتَ فِي أيِّ يَوْمٍ نَزَلَتْ وَفِي أيِّ مَكَانٍ نَزَلَتْ؟ إنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ وَاقِفٌ، وَكِلاَهُمَا بحَمْدِ اللهِ لَنَا عِيْدٌ، وَلاَ يَزَالُ ذلِكَ الْيَوْمُ عِيْداً). قال ابنُ عبَّاس: (إنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيْدَيْنِ: يَوْمُ جُمُعَةٍ وَيَوْمُ عَرَفَةَ)." رويَ عن عمرَ رضي الله عنه أنَّهُ بَكَى يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: " مَا يُبْكِيْكَ يَا عُمَرُ؟! " قَالَ: أبْكَانِي أنَّا كُنَّا فِي زيَادَةٍ مِنْ دِيْنِنَا، فَأمَّا إذا أكْمِلَ، فَإنَّهُ لاَ يَكْمَلُ شَيْءٌ إلاّ نَقُصَ، قَالَ: " صَدَقْتَ "واختلفُوا في معنىَ الآيةِ؛ قال بعضُهم: معناها: اليومَ أكملتُ لكم شَرَائِعَ دِيْنِكُمْ من الفرائضِ والسُّنَنِ والأحكامِ والحدود والحلال والحرام، فلم يَنْزِلْ بعدَها حلالٌ ولا حرامٌ ولا شيء من الفرائضِ، وثَبَتَ لكم جميع ما كنتُ أريدُ أن أبَيِّنَهُ لكم في الأزَلِ، فأمَّا دينُ اللهِ فلم يَزَلْ كامِلاً لا يُنْقَصُ فيهِ، وهذا قولُ ابنِ عبَّاس والسُّدِّيُّ. وقال قتادةُ وسعيدُ: (مَعْنَاهُ: أكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ؛ فَلَمْ يَحُجَّ مَعَكُمْ مُشْرِكٌ). ويحتملُ أن يكون المرادُ بالأكملِ للدين أظْهَرَهُ على سائرِ الأديان بالنُّصْرَةِ والغَلَبَةِ، و (الْيَوْمَ) نُصِبَ على الظَّرفِ، كما يقالُ: الآنَ، وفِي هذا الزَّمانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾ أي أتْمَمْتُ عليكم مِنَّتِي بإظهار الدِّينِ حتى لم يَحُجَّ معكم مُشْرِكٌ، وَقِيْلَ: نِعْمَةُ اللهِ بَيَانُ فَرَائِضِهِ، وَقِيْلَ: هي إيجابُ الجنَّةِ، وَقِيْلَ: معناهُ: وأنجزتُ لَكُمْ وَعْدِي في قَوْلِي:﴿ وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ﴾[البقرة: ١٥٠]، فكان من تَمَامِ نِعْمَتِهِ أنْ دَخَلُوا مكَّةَ آمنينَ وعليها ظاهرين، وحَجُّوا مطمئنِّين، ولم يخالِطْهم أحدٌ من المشركينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً ﴾ أي اخْتَرْتُ لكمُ الإسلامَ من الأديانِ كلِّها دِيناً، فمن دَانَ بالإسلام، فقد اسْتَحَقَّ ثَوَابي ورضَاي. والدِّينُ: اسْمٌ لِجَمِيْعِ مَا يَعْبُدُ اللهَ بهِ خَلْقُهُ، وأمرَهم بالإقامةِ عليه، وهو الذي أمِرُوا أن يكونَ ذلك عادتُهم والذي به يجزونَ، فإن الدِّينَ في اللغة: الْعَادَةُ، والدِّين الْجَزَاءُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾؛ أي مَنْ دَعَتْهُ الضرورةُ إلى أكلِ شيء مِمَّا حَرَّمَ اللهُ عليه في مجاعةٍ غَيْرِ مائلٍ إلى إثْمٍ؛ أي زَائِدٍ على ما يَسُدُّ به رَمَقَهُ ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أباحَ ذلك رحمةً منه وتسهيلاً على خَلْقِهِ. وَالْمَخْمَصَةُ: مَأْخُوذةٌ مِنَ الْمَخْصِ وَهُوَ شِدَّةُ ضُمُور الْبَطْنِ، وَالْمُتَجَانِفُ مِنَ الْجَنَفِ وَهُوَ الْمَيْلُ.