قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس وجماعةٌ من المفسِّرين: (مَعْنَاهُ: إذا أرَدْتُمُ الْقِيَامَ إلَى الصَّلاَةِ، وَإنَّمَا أضْمَرُواْ إرَادَةَ الْقِيَامِ؛ لأنَّ صِحَّةَ قِيَامِ الصَّلاَةِ بالطَّهَارَةِ فَلاَ يَصُحُّ جُزْءٌ مِنَ الْقِيامِ قَبْلَ تَقَدُّمِ الطَّهَارَةِ). وظاهرُ الآية يقتضي أنَّ القيامَ إلى الصلاةِ يكون سَبَباً لوجوب الطَّهارةِ، ولا خلافَ بين السَّلَفِ والْخَلَفِ أنَّ الطهارةَ لا تجبُ سبب القيام إلى الصَّلاةِ، إلاّ أنه رُويَ عن ابن عُمَرَ وَعليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (أنَّهُمَا كَانَا يَتَوَضَّأَنِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ، وََيَقْرَآنِ هِذِهِ الآيَةَ). فيحتمل أنَّهما كانا يفعلان ذلك نَدْباً واستحباباً، فإنْ تَجديدَ الطَّهارةِ لكلِّ صلاةٍ مستحبٌّ. وقد روي عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ:" مَنْ تَوَضَّأَ فَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ مَا لَمْ يُحْدِثْ "وَقَالَ:" لاَ وُضُوءَ إلاَّ مِنْ حَدَثٍ "فَثَبَتَ أن في الآيةِ إضمارٌ آخر تقديرهُ: أذا أرَدْتُمْ القيامَ إلى الصلاةِ وأنتم مُحْدِثُونَ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ، وهذا نظيرُ قولهِ تعالى:﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾[البقرة: ١٨٤] معناه: فَأَفْطَرَ فَعَلَيْهِ عدَّةٌ مِن أيَّامٍ أخُرَ، وقولهُ:﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ ﴾[البقرة: ١٩٦] معناه فَحَلَقَ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ. وقال بعضُهم: معنى الآيةِ: إذاَ قُمْتُمْ من نَوْمِكُمْ إلى الصَّلاةِ، وقال: هذا على أنَّ النومَ في حالةِ الاضطجاع حَدَثٌ. قولُهُ تَعَالَى: ﴿ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾ الغَسْلُ: إجْرَاءُ الْمَاءِ عَلَى المَحَلِّ وَتَسْييْلُهُ، سَوَاءٌ وُجِدَ مَعَهُ الدَّلْكُ أمْ لاَ، وَالْوَجْهُ: مَا يُوَاجِهُكَ مِنَ الإنْسَانِ، وَحَدُّهُ مِن قِصَاصِ الشَّعْرِ إلى أسفلِ الذقْنِ، ومِن شَحْمَتَي الأُذُنِ إلى شَحْمَتَي الأُذُنِ. وظاهرُ الآيةِ يقتضي أنَّ المضمضةَ والاستنشاقَ غيرُ واجبتينِ في الوضوءِ، لأن اسمَ الوجهِ يتناولُ الظاهرَ دون الباطنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ ﴾ أي مع المرافقِ، هكذا قال علماؤُنا رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى، إلاّ زُفَرَ رَحِمَهُ اللهُ؛ فإنهُ ذهبَ إلى ظاهرِ الآية وقال: (إنَّ حَرْفَ (إلَى) لِلْغَايَةِ، وَالْغَاَيَةُ لاَ تَدْخُلُ فِي الْحُكْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى﴿ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ ﴾[البقرة: ١٨٧]). وأمَّا عامَّةُ العلماءِ فقالوا: إنَّ (إلى) تُذْكَرُ بمعنى (مَعَ) كما قالَ تعالى﴿ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ ﴾[النساء: ٢]، فاذا احتملَ اللفظُ الغايةَ واحتملَ معنى المقارنةِ حَلَّ مَحَلَّ الْمُجْمَلِ، فَكَانَ مَوْقُوفاً عَلَى بَيَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وقد روي:" أنَّهُ كَانَ إذا تَوَضَّأَ أدَارَ الْمَاءَ عَلَى مِرْفَقَيْهِ "، فصار فعلهُ بياناً للمجملِ، فحُمِلَ على الوُجُوب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ ﴾ اختلفَ العلماءُ في مقدار وجوب الْمَسْحِ منه، فذهبَ مالكٌ إلى أنَّ مسحَ جميعِ الرأسِ واجبٌ، وقال: (ظَاهِرُ الآيَةِ يَقْتَضِي الْجَمِيْعَ دُونَ الْبَعْضِ، لأنَّكَ إذا قُلْتَ: مَرَرْتُ بزيدٍ؛ أردتَ جُمْلَتَهُ لاَ بَعْضَهُ، وَمِثْلُ ذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ ﴾[الحج: ٢٩] وَالْمُرَادُ كُلُّ الْبَيْتِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ ﴾ ). وذهب الشافعيُّ: إلى أنَّ الواجبَ مقدارُ ما يتناولُهُ الاسمُ، ومِن أصحابهِ من قَدَّرَهُ بثلاثِ شَعْرَاتٍ. وهذا بعيدٌ؛ لأن فَاعِلَهُ لا يسمَّى مَاسِحاً رأسَهُ ولا بِرَأسِهِ، ولأنَّ ذلك القدرُ يحصلُ بغسلِ الوجهِ، وفِعْلُ ذلك أيضاً مُتَعَسِّرٌ. وقال أصحابُنا في الاحتجاجِ على مالكٍ بأنَّ (الباءَ) تُذْكَرُ ويرادُ بها التَّبْعِيْضُ، كما تقولُ: أخذتُ برأسِ فلانٍ، ومسحتُ برأسِ اليتيمِ، فاذا احتملَ اللفظُ التبعيضَ كان مُجْمَلاً فوجبَ الرُّجُوعُ فيه إلى فعلِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وقد رويَ:" أنَّهُ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ "والناصيةُ: هِيَ الرُّبُعُ الْمُقَدَّمُ مِنَ الرَّأسِ، ومعلومٌ أنه كان لا يتركُ بعضَ الواجب، فثبتَ أنَّ الفرضَ مقدورٌ على هذا المقدار، إلاّ أنَّ الأفضلَ أن يَمسحَ جميعَ الرأسِ ليخرج عنِ الفرضِ بيقينٍ. وقد رويَ:" أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم توضَّأَ وَمَسَحَ وَمَسَحَ جَمْيِعَ رَأسِهِ "واختلفَ العلماءُ في عددِ مَسْحِ الرَّأسِ. قال علماؤُنا: الأفضلُ أن يَمْسحَ جميعَ رأسهِ بمَاءٍ واحدٍ. وروى الحسنُ عن أبي حَنِيْفَةَ: (أنَّ مَسْحَ رَأْسِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ بمَاءٍ وَاحِدٍ كَانَ سُنَّةً). وقال الشافعيُّ: (الأَفْضَلُ أنْ يَمْسَحَ ثَلاَثاً بثَلاَثِ مِيَاهٍ). رويَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" أنَّهُ مَسَحَ رَأسَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً "، وقال صلى الله عليه وسلم:" الْوُضُوءُ ثَلاَثاً ثَلاَثاً إلاَّ الْمَسْحُ "وَأمَّا مسحُ الأُذُنَيْنِ فهو سُنَّةٌ لا خلافَ في ذلك بين أهلِ العلمِ، وإنَّما اختلفُوا في كيفيَّةِ مَسْحِهِمَا. قال أصحابُنا: يَمْسَحُ ظَاهِرَهُمَا وباطنَهُما مَعَ الرأسِ بماءٍ واحدٍ، كما رويَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" أنَّهُ مَسَحَ برَأسِهِ وَأذُنَيْهِ بمَاءٍ وَاحِدٍ "وفي بعضِ الرِّواياتِ:" مَسَحَ رَأسَهُ، ومَسَكَ شَيْئاً لأُذُنَيْهِ؛ ثُمَّ قَالَ: " الأُذُنَان مِنَ الرَّأسِ " "وقال الشافعيُّ: (هُمَا عُضْوَانِ مُنْفَرِدَانِ يُمْسَحَانِ ثَلاَثاً بثَلاَثِ مِيَاهٍ). وأمَّا مسحُ الرَّقَبَةِ؛ فلم يُذْكَرْ في شيءٍ من الكُتُب المشهورةِ، ويحتملُ أن يكونَ سُنَّةً، ويحتملُ أن يكونَ مُسْتَحَبّاً؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَمسحُ مُقَدَّمَ رأسهِ؛ فقالَ بعضُهم: إنَّ المقصودَ من مسحِ مُؤَخَّرِ الرأسِ مسحُ الرقبةِ. وقد رويَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:" مَنْ مَسَحَ رَقَبَتَهُ فِي الْوُضُوءِ أمِنَ مِنَ الْغَلِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ ﴾ قرأ ابنُ عامرٍ ونافعُ والكسائيُّ وحفصُ ويعقوب: (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب، وهي قراءةُ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وقرأ الباقونَ (وَأرْجُلِكُمْ) بالخفضِ وهي قراءةُ أنَسٍ وعلقمةَ والشعبيُّ، فمن نَصَبَ فمعناهُ: وَاغْسِلُوا أرْجُلَكُمْ عطفاً على الوجهِ واليدينِ، ومن خَفَضَ فعلى العطف على الرَّأسِ أو على الابتداء، والجوازِ لفظاً لا معنىً، كقولِ العرب: جُحر ضَبٍّ خَرِبٍ، وقولِهم: أكلتُ السَّمْنَ واللبنَ، واللبنُ يشرب ولا يؤكلُ، ويقالُ: فلانٌ متقلِّدٌ سيفاً ورُمحاً، والرُّمْحُ لا يُتَقَلَّدُ به، وإنَّما يحملُ. وقال لبيد: وَأطْفَلَتْ بالْجَلْهَتَيْنِ ظِبَاؤُهَا وَنَعَامُهَا، النَّعَامُ لا يُطفِلُ وإنما يفرخُ، وقولُهم: جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ، كان ينبغي أن يقالَ: خَرِبٌ لأنه نعتُ الجحرِ، وإنَّما خُفِضَ للمجاوزةِ. وقال بعضُهم: أرادَ بذلك المسحَ على الْخُفَّيْنِ، فإن الماسِحَ على الْخُفَّيْنِ يُسَمَّى ماسِحاً على الرِّجْلَيْنِ لقُرْب الجوار، كما يقالُ: قَبَّلَ فلانٌ على رجْلِ الأميرِ ورأسِه ويدهِ، وإن كان الرِّجْلاَنِ في الْخُفِّ، والرأسُ في العمامةِ، واليدُ في الكُمِّ. وفي الحديث:" أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا رَكَعَ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ "وليسَ المرادُ أنه لم يَكُنْ بينهُما حائلٌ. واختارَ بعضُهم المسحَ على الرِّجْلَيْنِ، وهو قولُ ابنِ عبَّاس، وقالُوا: (الوُضُوءُ غَسْلاَنِ وَمَسْحَانِ). وذهب بعضُهم إلى أنَّ الْمُتَوَضِّئَ مُخَيَّرٌ بين غَسْلِ الرِّجلين ومَسْحِهما. وإذا احتملت قراءةُ الخفضِ المسحَ على الْخُفَّيْنِ، واحتملت مسحَ الرِّجلينِ، واحتملت غَسْلَهُمَا، وجبَ الرُّجوعُ إلى فِعْلِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقد رُويَ:" أنَّهُ دَاوَمَ عَلَى غَسْلِ رجْلَيْهِ "واتفقتِ الأُمَّةُ على فعلهِ. وروى ابنُ عمرَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" أنَّهُ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً؛ وَغَسَلَ رجْلَيْهِ؛ وَقَالَ: هَذا وُضُوءٌ لاَ يَقْبَلُ اللهُ الصَّلاَةَ إلاَّ بهِ "، ولأنَّ اللهَ تعالى قالَ: ﴿ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ ﴾، وهذا يدلُّ على الغَسْلِ كاليدينِ حدُّهما إلى المرافقِ وكان فرضُهما الغَسْلُ دون الْمَسْحِ. وقال صلى الله عليه وسلم:" لاَ يَقْبَلُ اللهُ صَلاَةَ امْرِئ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ، فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَيَمْسَحُ برَأسِهِ وَيَغْسِلُ رجْلَيْهِ "وعن جابرٍ رضي الله عنه قالَ:" أمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ نَغْسِلَ أرْجُلَنَا إذا تَوَضَّأْنَا "وقال ابنُ أبي لَيلَى: (أجْمَعَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى وُجُوب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ). وعن عبدِالله بنِ عُمَرَ قال:" مَرَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْمٍ وَعَرَاقِيْبُهُمْ تَلُوحُ، فَقَالَ: " أسْبغُوا الْوُضُوءَ، وَيْلٌ لِلأَعْقَاب مِنَ النَّارِ " "" ورأى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أعْمَى يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: " اغْسِلْ بَاطِنَ قَدَمَيْكَ " فَجَعَلَ يَغْسِلُ حَتَّى سُمِّيَ أبا غَسِيلٍ "وقالت عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: (لإِنَّ يُقْطَعَ قَدَمَايَ أحَبُّ إلَيَّ مِنْ أنْ أمْسَحَ عَلَيْهِمَا مِنْ غَيْرِ خُفَّيْنِِ). وذهبتِ الرَّوَافِضُ إلى أن الواجبَ في الرجلين الْمَسْحُ. ورَوَوا في المسحِ خَبَراً ضَعِيْفاً شَاذاً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ ﴾ هما النَّاتِئَانِ مِن جَانِبَي الرِّجْلِ، وهما مَجْمَعُ مَفْصَلِ السَّاقِ والْقَدَمِ، مأخوذٌ مِن الْكَعْب وَهُوَ النُّتُوءُ؛ يُقَالَُ: جَاريَةٌ كَاعِبٌ إذا خَرَجَ ثَدْيَاهَا. وروَى هشامُ عن محمدٍ: أنَّهُ الْكَعْبُ الَّذِي فِي وَسَطَ الْقََدَمِ عِنْدَ مَقْعَدِ الشِّرَاكِ. والصحيحُ: أن مُحمداً إنَّما قال ذلكَ في الْمُحْرِمِ بالْحَجِّ، فإنه يَقْطَعُ خُفَّيْهِ أسفلَ من الكعبينِ، قال (وَالْكَعْبُ هَا هُنَا مَقْعَدُ الشِّرَاكِ)، فنقلَ هشامُ ذلك إلى الطهارةِ، ولا خلافَ في الكعب في الوضوءِ بين العلماءِ الثلاثة: أنهُ داخلٌ في غَسْلِ الرِّجلينِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ ﴾، أي إنْ كُنْتُمْ جُنُبًا وأردتُم القيامَ إلى الصَّلاةِ فَاغْتَسِلُوا، والْجُنُبُ يوضعُ موضعَ الجمعِ؛ يقالُ: رجلٌ جُنُبٌ؛ ورجَالٌ جُنُبٌ؛ وقومٌ جنُبٌ. ولَفْظُ الإطْهَار يقتضِي تَطَهُّرَ جميعِ البدن في الاغتسالِ من الجنابةِ كما قال صلى الله عليه وسلم:" تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ، فَبُلُّوا الشَّعْرَ وَانْقُوا الْبَشَرَةَ "ولهذا قال أصحابُنا: إنَّ المضمضةَ والاستنشاقَ وَاجِبَانِ في غُسْلِ الْجَنَابَةِ، وقولهُ تعالى: ﴿ فَاطَّهَّرُوا ﴾ أي فَتَطَهَّرُواْ، إلاّ أن التَّاءَ تُدْغَمُ في الطاءِ لِقُرْب مخرجِهما. وعن أنسٍ رضي الله عنه قالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" " يَا بُنَيَّ! إذا أخَذْتَ فِي الْغَسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَبَالِغْ فِيْهِ، فَإنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جِنَابَةٌ " فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَكَيْفَ أبَالِغُ؟ قَالَ: " رَوِّ أصُولَ الشَّعْرِ؛ وَانْقِ بَشَرَتَكَ تَخْرُجْ مِنْ مُغْتَسَلِكَ وَقَدْ غُفِرَ لَكَ كُلُّ ذنْبٍٍ " ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ ﴾؛ أي من جُدَريٍّ أو غيرهِ، فلم تطيقُوا غَسْلَ هذه الأشياءِ.
﴿ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ ﴾، أو كنتم مسافرين.
﴿ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ ﴾؛ معناهُ: وجاءَ أحدٌ منكُم مِن قضاءِ الحاجةِ، لأنهُ لا خَلاَءَ، وأنَّ المريضَ والمسافرَ إذا لم يكونا مُحْدِثَيْنِ لا يلزمُهما الوضوءُ ولا التَّيَمُّمُ، وقد تذكرُ (أو) بمعنى (الواو) مثلُ قولهِ تعالى:﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾[الصافات: ١٤٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَْ ﴾؛ معناهُ: أو جَامَعْتُمْ النِّسَاءَ. ﴿ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً ﴾؛ أي تَقْدِرُونَ على ما تَتَطَهَّرُونَ بهِ من الْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ.
﴿ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً ﴾؛ أي اقْصُدُوا تُرَاباً نَظِيفاً.
﴿ فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ ﴾؛ اختلفَ العلماءُ في قولهِ (مِنْهُ)؛ قال أبو يوسف: (مَعْنَاهُ التَّبْعِيْضُ؛ أي امْسَحُواْ بوُجُوهِكُمْ وأيدْيكُمْ مِنْ بَعْضِ الصَّعِيْدِ وَهُوَ التُّرَابُ). وقال أبُو حَنِيْفَةَ ومحمدُ: (مَعْنَى (مِنْ) هَا هُنَا ابْتِدَاء الْغَايَةَ؛ أيْ فَانْقُلُوا الْيَدَ بَعْدَ وَضْعِهَا عَلَى الصَّعِيْدِ إلَى الْوُجُوهِ وَالأَيْدِي مِنْ غَيْرِ أنْ يَتَخَلَّلَهَا مَا يُوْجِبُ الْفَصْلَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ﴾؛ أي ما يريدُ الله أنْ يجعلَ عليكم بتكليفِ العباداتِ تَضْييقاً في الدِّينِ.
﴿ وَلَـٰكِن ﴾، وإنَّما.
﴿ يُرِيدُ ﴾، بذلكَ.
﴿ لِيُطَهِّرَكُمْ ﴾، أن يُطَهِّرَكُمْ من الذُّنوب وَالأحْدَاثِ وَالْجَنَابَةِ، كما رويَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قال:" أيَّمَا رَجُلٍ قَامَ إلَى وُضُوئِهِ يُرِيْدُ الصَّلاَةَ ثُمَّ غَسَلَ كَفَّيْهِ نَزَلَتْ خَطِيْئَةُ كَفَّيْهِ مَعَ أوَّلِ قَطْرَةٍ، فَإذا تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ نَزَلَتْ خَطِيِئَةُ لِسَانِهِ وَشَفَتَيْهِ مَعَ أوَّلِ قَطْرَةٍ، فَإذا غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَرجْلَيْهِ إلَى الْكَعْبَيْنِ سَلِمَ مِنْ كُلِّ ذنْبٍ هُوَ عَلَيْهِ، وَكَانَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أمُّهُ "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ﴾؛ قال الحسنُ: (بإدْخَالِ الْجَنَّةِ)، وقال ابنُ عبَّاس: (بجَوَاز التَّيَمُّمِ لَكُمْ بالتُّرَاب فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ). ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾؛ أي لِكَي تَشْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ فِي رُخْصَتِهِ لَكُمْ وَتَخْفِيْفِهِ عَلَيْكُمْ فِي التَّكْلِيْفِ. قال عثمانُ رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" مَا تَوَضَّأَ عَبْدٌ فَأَسْبَغَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ إلَى الصَّلاَةِ إلاَّ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ الأُخْرَى "