قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوۤاْ أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأَرْضِ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس:" إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَادَعَ أبَا بُرْدَةَ هِلاَلَ بْنَ عُوَيْمِرَ الأَسْلَمِيُّ: " عَلَى أنْ لاَ يُعِيِنَهُ وَلاَ يُعَِينَ عَلَيْهِ، وَمَنْ أتَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أمَّنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ مَرَّ بهِلاَلِ بْنِ عُوَيْمِرَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ آمِنٌ ". فَمَرَّ قَوْمٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُرِيدُونَ الإسْلاَمَ عَلَى قَوْمٍ مِمَّنْ أسْلَمَ مِنْ قَوْمِ هِلاَلٍ، وَلَمْ يَكُنْ هِلاَلٌ يَوْمَئِذٍ حَاضِراً، فَخَرَجَ أصْحَابُهُ إلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُمْ وَأخَذُوا أمْوَالَهُمْ، فَبَلَغَ ذلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللهُ فِيْهِمْ هَذِهِ الآيَةَ ". ومعناها: (إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَاربُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ) الفَسَاد نحو القتلِ والنَّهب والتخريب وقطع الطريقِ ﴿ أَن يُقَتَّلُوۤاْ ﴾ إنْ قتَلُوا أحداً ولم يأخذُوا المالَ ﴿ أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ ﴾ مقتُولين إن قتَلُوا وأخذُوا المالَ.
﴿ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ ﴾ اليدُ اليمين من الرِّسغ، والرِّجل اليُسرى من الكعب إن أخَذُوا المالَ ولم يقتُلوا أحَداً.
﴿ أَوْ يُنفَوْا مِنَ ٱلأَرْضِ ﴾ إن أخَافُوا الطريقَ ولم يفعَلُوا سِوَى ذلك. واختلَفُوا في معنى النَّفي، قال بعضُهم: يعني الحبسَ، وقال بعضُهم: هو الطلبُ حتى لا يستقرَّ بهم مكانٌ. والتوفيقُ بين القولَين: أنَّهم إنْ أخِذُوا بعد ما أخَافُوا الطريقَ؛ أودعَهم الإمامُ السِّجن حتى يتوبُوا أو يموتوا، وإنْ لم يُؤخَذوا أمَرَ بطلبهم، وأمرَ أن يُنادى في الناسِ: أنَّ مَن قتلَهم لا سبيلَ عليه. وإنما سُمي الحبسُ نَفياً؛ لأنه يمنعُ المحبوسين من التردُّد والتصرُّف في الأرضِ، ويكون ذلك بمنزلةِ النَّفيِ من الأرض. واختلَفُوا في كيفيَّة الصَّلب مع القتلِ. قال أبو حَنيفة: (يُصْلَبُ حَيّاً لِيَرَى النَّاسَ وَيَرَوهُ؛ وَيَكُونُ ذلِكَ زيَادَةً عُقُوبَةٍ لَهُ، ثُمَّ تُبْعَجُ بَطْنُهُ بالرُّمْحِ؛ يُطْعَنُ فِي خَاصِرَتِهِ حَتَّى يَمُوتَ). وقال أبو يُوسف والشافعيُّ: (يُقْتَلُ ثُمَّ يُصْلَبُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي ٱلدُّنْيَا ﴾؛ أي فضيحةٌ في الدنيا.
﴿ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾؛ أعظَمُ من هذا. وقال مقاتلُ وسعيد بن جُبير: (نَزلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي قَوْمٍ مِنْ بَنِي عُرَيْنَةَ، قَدِمُوا الْمَدِيْنَةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبَايَعُوهُ عَلَى الإسْلاَمِ، وَهُمْ كَذبَةٌ وَلَيْسَ يُرِيدُونَ الإسْلاَمَ، فَاجْتَوَواْ الْمَدِيْنَةَ وَعَظُمَتْ بُطُونُهُمْ وَاصْفَرَّتْ وُجُوهُهُمْ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَخْرُجُوا إلَى إبلِ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُواْ مِنْ أبْوَالِهَا وَألْبَانِهَا، فَفَعَلُوا ذلِكَ حَتَّى صَحُّوا، ثُمَّ قَتَلُوا الرُّعَاةَ وَاسْتَاقُوا الإبِلَ وَارْتَدُّواْ عَنِ الإسْلاَمِ. فَصَاحَ الصَّائِحُ: يَا خَيْلَ اللهِ ارْكَبي. فََرَكِبُوا لاَ يَنْتَظِرُ فَارسٌ فَارساً، فَأَسْرَعُوا فِي طَلَبهِمْ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أبي طَالِبٍ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ فِي طَلَبهِمْ، فَجَاءوا بهِمْ، فَقَطََّعَ أيْدِيَهُمْ وَأرْجُلَهُمْ مِنْ خِلاَفٍ، وَسَمَّلَ أعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ بالْحَيَاةِ حَتَّى مَاتُواْ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَصَارَتْ عَامَّةً فِي قُطَّاعِ الطُّرُقِ نَاسِخَةً لِتَسْمِيلِ الْعَيْنِ). وقال الليثُ بنُ سعدٍ: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ مُعَاتِبَةً لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتَعْلِيماً لَهُمْ عُقُوبَتَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوۤاْ أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ ﴾ وَلَمْ يَكُنْ جَزَاؤُهُمْ هَذِهِ الْمُثْلَةَ الَّتِي هِيَ السَّمْلُ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ خَطِيباً وَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ).