قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾؛ أي ظنُّوا ألاَّ يكون عَذاباً وعقوبةً، وَقِيْلَ: ابتلاءً بسبب قتلِهم الأنبياء وتكذيبهم الرسُلَ. من قرأ (يَكُونَ) بالنصب فمعنى (أنْ يَكونَ)، ومن قرأ بالرفعِ فمعناهُ: (أنَّهُ لاَ يَكُونُ) أي فحَسِبُوا أنَّ فعلَهم غيرُ فاتنٍ لهم.
﴿ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ﴾؛ عن الحقِّ؛ أي عَمِلُوا معاملةَ الأعمى الذي لا يُبصر، والأصمَّ الذي لا يسمعُ، فصاروا كالعُمْيِ والصُّمِّ. ﴿ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾؛ أي تجاوزَ عنهم بأن أرسلَ إليهم مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم يُعلِمُهم أنه قد تابَ عليهم إن آمَنُوا وصدَّقُوا فلم يؤمِنْ أكثَرُهم، ويقال: دَانُوا بعد ذلك وتابُوا من الكفرِ فقَبلَ اللهُ توبتَهم، فلمَّا بعثَ اللهُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم وجاءَهم ما عرَفُوا كفَرُوا بهِ، فذلك قولهُ: ﴿ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ﴾ أي عَمُوا عن الهدَى، وصَمُّوا عن الحقِّ بعد أنِ ازدادَ لهم الأمرُ وضوحاً بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ﴾؛ بدلٌ من الواوِ في قوله ﴿ عَمُوا ﴾ كأنه قالَ: عَمِيِ وصَمَّ كثيرٌ منهم، وهذا كما يقالُ: جاءَني قومُكَ أكثرُهم، وقوله: ﴿ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ﴾ يقتضي في المرة الثانيةِ أنَّهم لم يكفُروا بأكملِهم، وإنما كفَرَ أكثرُهم، كما قالَ تعالى:﴿ لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ ﴾[آل عمران: ١١٣] وقال تعالى:﴿ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ﴾[المائدة: ٦٦].
ويُحكى عن بعضِ أهل اللُّغة جوابَ جمعِ الفعل متقدِّماً على الاسمِ، كما يقالُ: أكَلُونِي البراغيثُ، ويجوزُ أن يكون ﴿ كَثِيرٌ ﴾ خبرُ مبتدأ محذوفٍ؛ معناهُ: العميُ والصمُّ كثيرٌ منهم. وقوله: ﴿ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾؛ أي بما تعمَلون من التكذيب ونقضِ الميثاق وتحريف الكلام.


الصفحة التالية
Icon