قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾؛ أي مَا مَنَعَكَ أنْ تسْجُدَ، و(لاَ) زائدةٌ في الكلام كما في قولهِ تعالى:﴿ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ ﴾[الحديد: ٢٩] أي لِيَعْلَمَ أهلُ الكتاب. وَقِيْلَ: معناهُ: ما دَعَاكَ إلى أنْ لا تَسجُدَ، وقد عَلِمَ اللهُ ما مَنَعَهُ من السجود، ولكن مسألتُهُ إياه تَوْبيْخٌ لهُ وإظهارٌ أنه مُعَانِدٌ رَكِبَ المعصيةَ. وعن يحيَى بنِ ثعلب أنه قال: (كَانَ بَعْضُهُمْ يَكْرَهُ أنْ لاَ وَيَقُولُ: تَقْدِيْرُهُ: مَنْ قَالَ لَكَ لاَ تَسجُدْ؟). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾؛ ليسَ هذا الجوابُ عمَّا سَألَهُ تعالى من جهةِ اللفظ؛ لأن هذا الجوابَ جوابُ: أيُّكما خَيْرٌ؟ إلاَّ أن هذا جوابٌ من جهةِ المعنى، فإن معناهُ: إنَّما مَنَعَنِي من السجودِ إلا أنِّي كنتُ أفضلَ منه. وكان هذا القولُ من اللَّعِيْنِ تَجْهِيْلاً منهُ بخَالِقِهِ؛ كأن قال: إنَّكَ فضَّلْتَ الظُّلْمَةَ على النُّور وليسَ ذلكَ من الحكمةِ. فأعلَمَ اللهُ تعالى أنهُ صَاغِرٌ بهذا القولِ، وليس الأمرُ على ما قاله الْمَلْعُونُ؛ لأنهُ رأى أنَّ جوهرَ النار أفضلُ من جوهرِ الطِّينِ في المنفعةِ، وليس كذلكَ لأن عَامَّةَ الثِّمَار والحبوب والفواكه من الطِّينِ، وكذلك الملابسُ كلُّها لا تخرجُ إلا من الطِّين، وعمارةُ الأرضِ من الطين، وهو موضعُ القَرَار عليهِ لا استغناءَ عنهُ في حالٍ من الأحوال. وأما النَّارُ فهي لِلْخَرَاب، وإنْ كان فيها بعضُ المنافعِ. قال ابنُ عبَّاس: (أوَّلُ مَنْ قَاسَ فَأْخْطَأَ الْقِيَاسَ إبْلِيْسُ لَعَنَهُ اللهُ، فَمَنْ قَاسَ الدِّيْنَ بتَبَعٍ مِنْ رَأيهِ قَرَنَهُ اللهُ مَعَ إبْلِيْسَ). وكان قياسُ إبليسَ أنه قال: النارُ خيرٌ وأفضلُ وأصفَى وأنورَ من الطِّين. وقال ابنُ سيرينَ: (أوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيْسُ، وَمَا عُبدتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إلاَّ بالْمَقَاييْسِ). وَقَدْ أخْطَأَ عَدُوُّ اللهِ حِيْنَ فَضَّلَ النَّارَ عَلَى الطِّيْنِ، بَلِ الطِّيْنُ أفْضَلُ مِنَ النَّارِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ؛ أحْسَنُهَا: إنَّ جَوْهَرَ الطِّيْنَ السُّكُونُ وَالْوَقَارُ وَالْحَيَاءُ وَالصَّبْرُ وَالْحُلْمُ، وَذلِكَ هُوَ الدَّاعِي لآدَمَ بَعْدَ السَّعَادَةِ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ إلَى التَّوْبَةِ وَالتَّوَاضُعِ، فأَوْرَثَهُ الْمَغْفِرَةَ وَالاجْتِبَاءَ والْهِدَايَةَ وَالتَّوْبَةَ. وَمِنْ جَوْهَرِ النَّار الْخِفَّةُ والطَّيْشُ وَالحِدَّةُ وَالارْتِفَاعُ وَالاضْطِرَابُ، وَذلِكَ هُوَ الدَّاعِي لإِبْلِيْسَ بَعْدَ الشَّقَاوَةِ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ إلَى الاسْتِكْبَار وَالإصْرَار، فأَوْرَثَهُ الْعَذابَ وَالْهَلاَكَ وَاللَّعْنَةَ وَالشَّقَاءَ. وَالثَّانِي: أنَّ الطِّينَ سَبَبٌ لِجَمْعِ الأَشْيَاءِ، وَالنَّارُ سَبَبٌ لِتَفَرُّقِهَا. وَالثَّالِثُ: أنَّ الْخَبَرَ نَاطِقٌ بَأَنَّ تُرَابَ الْجَنَّةِ مِسْكٌ أذفَرُ، وَلَمْ يَنْطِقِ الْخَبَرُ أنَّ فِي الجَنَّةِ نَاراً وَفِي النَّار تراباً. وَالرَّابعُ: أنَّ النَّارَ سَبَبُ عَذاب اللهِ تَعَالَى لأَعْدَائِهِ، وَلَيْسَ التُّرَابُ لِلْعَذاب. وَالْخَامِسُ: أنَّ التُّرَابَ مُسْتَغْنٍ عَنِ النَّارِ، وَالنَّارُ تَخْرُجُ إلَى الْمَكَانِ وَمَكَانُهَا التُّرَابُ).


الصفحة التالية
Icon