قوله: ﴿ وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيْرَ ﴾ شروع في القصة الثالثة، والمعنى نظر في الطير فلم ير الهدهد، وكان سبب سؤاله عن الهدهد، أنه كان دليل سليمان على الماء، وكان يعرف موضع الماء، ويرى الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاجة، ويعرف قربه وبعده، فينقر في الأرض، ثم تجيء الشياطين فيحفرونه وستيخرجون الماء في ساعة يسيرة، قيل لما ذكر ذلك ابن عباس قيل له: إن الصبي له فخاً ويحثوا عليه التراب، فيجيء الهدهد وهو لا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه، فقال ابن عباس: إذا نزل القضاء والقدر، ذهب اللب وعمي البصر، قيل ولم يكن له في مسيره إلا هدهد واحد. قوله: (فتستخرجه الشياطين) أي بأن تسلخ وجه الأرض عن الماء، كما تسلخ الشاة؟قوله: ﴿ مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ ﴾ استفهام استخبار. قوله: ﴿ أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَآئِبِينَ ﴾ ﴿ أَمْ ﴾ منقطعة تفسر ببل والهمزة، كأنه لم يره ظن أنه حاضر ولا يراه لساتر أو غيره، فقال: ﴿ مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ ﴾ ثم احتاط فظهر له أنه غائب فأضرب عن ذلك، وهو إضراب انتقالي. قوله: ﴿ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً ﴾ الحلف على أحد الأولين بتقدير عدم الثالث، فأو بين الكلمتين للتخيير، وفي الثالث للترديد بينه وبينهما، فهي في الأخير بمعنى إلا. قوله: (بنتف ريشه) هذ أحد أقوال في معنى التعذيب، وقيل هو أن يحشره مع غير أبناء جنسه، وقيل هو أن يطلى بالقطران ويوضع في الشمس. قوله: (بنون مشددة) الخ، أي والقراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ أي حجة ظاهرة على غيبته، والسبب غيبة الهدهد، أن سليمان عليه السلام، لما فرغ من بناء بيت المقدس، عزم على الخروج إلى أرض الحرم، فتجهز للمسير واستصحب جنوده من الجن والإنس والطير والوحش فحملتهم الريح، فلما وافى الحرم، أقام ما شاء الله أن يقيم، أي من غير صلاة بالكعبة كراهة في الأصنام، ولم يكن مأموراً بتكسيرها، فاندفع التعارض بين ما هنا وما تقدم، وكان ينحر في كل يوم طول مقامه خمسة آلاف ناقة، ويذبح خمسة آلاف ثور، وعشرين ألف شاة، وقال لمن حضره من أشراف قومه: إن هذا المكان يخرج منه نبي عربي، صفته كذا وكذا، ويعطى النصر على جميع من عاداه، وتبلغ هيبته مسافة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء، لا تأخذه في الله لومة لائم، قالوا: فبأي دين يدين يا نبي الله؟ قال بدين الله الحنيفية، فطوبى لمن أدركه وآمن به، قالوا: كم بيننا وبين خروجه يا نبي الله؟ قال مقدار ألف سنة، فليبلغ الشاهد الغائب، فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل، قال: فأقام بمكة حتى قضى نسكه، ثم خرج من مكة صباحاً وسار نحو اليمن، فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضاً حسناء تزهو خضرتها، فأحب النزول بها ليصلي ويتغدى، فلما نزل قال الهدهد: قد اشتغل سليمان بالنزول، فارتفع نحو السماء ينظر إلى طول الدنيا وعرضها ففعل ذلك، فبينما هو ينظر يميناً وشمالاً، رأى بستاناً لبلقيس، فنزل اليه فإذا هو بهدهد آخر، وكان اسم هدهد سليمان يعفور، وهدهد اليمن عفير، فقال عفير ليعفور: من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود، قال ومن سليمان؟ قال: ملك الإنس والجن والشياطين والطير والوحش والرياح، فمن أين أنت؟ قال عفير: أنا من هذه البلاد، قال: ومن ملكها؟ قال: امرأة يقال لها بلقيس، وإن لصاحبك ملكاً عظيماً، ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها تملك اليمن، وتحت يدها أربعمائة ملك، كل ملك على كورة، مع كل ملك أربعة آلاف مقاتل، ولها ثلاثمائة وزير يدبرون ملكها، ولها اثنا عشر قائداً، مع كل قائد اثنا عشر ألف مقاتل، فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها؟ قال: أخاف أن يتفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج الماء، قال الهدهد اليماني: إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة، فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها، وأما سليمان فإنه نزل على غير ماء، فسأل عن الماء الجن والإنس فلم يعلموا، فتفقد الهدهد فلم يره، فدعا بعريف الطير وهو النسر، فسأله عن الهدهد فقال: أصلح الله الملك، ما أدري أين هو، وما أرسلته إلى مكان، فغضب سليمان وقال: ﴿ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً ﴾ الآية، ثم دعا بالعقاب وهو أشد الطير طيراناً، فقال له: علي بالهدهد الساعة، فارتفع العقاب في الهواء حتى نظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدين أحدكم، ثم التفلت يمنياً وشمالاً، فرأى الهدهد مقبلاً من نحو اليمن، فانقض العقاب يريده، وعلم الهدهد أن العقاب يقصده بسوء، فقال: بحق الذي قواك وأقدرك علي، إلا ما رحمتني ولم تتعرض لي بسوء، فتركه العقاب وقال: ويلك ثكلتك أمك، إن نبي الله قد حلف أن يعذبك أو يذبحك، فصارا متوجهين نحو سليمان عليه السلام، فلما انتهيا إلى العسكر تلقاه النسر والطير وقالا له: ويلك أين غبت في يومك هذا؟ فلقد توعدك نبي الله، وأخبراه بما قال سليمان، فقال الهدهد: أو ما استثنى نبي الله؟ فقالوا: بلى إنه قال: ﴿ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ فقال نجوت إذاً، وكانت غيبته من الزوال، ولم يرجع إلى بعد العصر، فانطلق به العقاب حتى أتيا سليمان، وكان قاعداً على كرسيه، فقال العقاب: قد أتيتك به يا نبي الله، فلما قرب من الهدهد، رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض، تواضعاً لسليمان عليه الصلاة والسلام، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده اليه وقال له: أين كنت؟ لأعذبنك عذاباً شديداً، فقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل، فلما سمع سليمان عليه الصلاة والسلام ذلك، ارتعد وعفا عنه ثم سأله: ما الذي أبطأك عني؟ فقال الهدهد: ﴿ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ﴾ إلى آخره. قوله: ﴿ فَمَكَثَ ﴾ أي الهدهد. قوله: (بضم الكاف وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان والأول من باب قرب والثاني من باب نصر. قوله: (أي يسيراً من الزمان) أي وهو من الزوال إلى العصر. قوله: (فعفا عنه) أي من أول الأمر قبل أن يذكر العذر. قوله: (وسأله عما لقي في غيبته) قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ فَقَالَ أَحَطتُ ﴾ الخ، مفرع على محذوف. قوله: ﴿ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ﴾ أي علمت ما لم تعلمه أنت ولا جنودك وفي هذا تنبيه على أن الله تعالى أرى سليمان عجزه لكونه لم يعلم ذلك مع كون المسافة قريبة وهي ثلاث مراحل. قوله: (بالصرف وتركه) أن فيما قراءتان سبعيتان فالصرف نظراً إلى أنه اسم رجل وتركه نظراً إلى أنه اسم القبيلة للعلمية والتأنيث. قوله: (اسمها بلقيس) بالكسر بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان، وكان أبوها ملكاً عظيم الشأن. قد ولد له أربعون ملكاً هي آخرهم، وكان الملك يملك أرض اليمن كلها، وكان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفؤاً لي، وأبى أن يتزوج منهم، فخطب إلى الجن فزوجوه امرأة يقال لها ريحانة بنت السكن، قيل في سبب وصوله إلى الجن حتى خطب اليهم، أنه كان كثير الصيد، فربما اصطاد من الجن وهم على صورة الضباء فيخلي عنهم، فظهر له ملك الجن وشكره على ذلك واتخذه صديقاً، فخطب ابنته فزوجه إياها. قوله: ﴿ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ عطف على قوله: ﴿ تَمْلِكُهُمْ ﴾ لأنه بمعنى ملكتهم، قال ابن عباس: كان يخدمها ستمائة امرأة. قوله: (يحتاج اليه الملوك) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ عام أريد به الخصوص. قوله: ﴿ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾ أي تجلس عليه، أو وصفه بالعظم بالنسبة إلى ملوك الدنيا، وأما وصف عرش الله بالعظم، فهو بالنسبة إلى جميع المخلوقات من السماوات والأرض وما بينهما فحصل الفرق، قوله: (طوله ثمانون ذراعاً) الخ، وقيل طوله ثمانون وعرضه كذلك، وارتفاعه في الهواء كذلك. قوله: (عليه سبعة أبواب) صوابه أبيات بدليل قوله: (على كل بيت باب مغلق). قوله: ﴿ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ ﴾ أي فهم مجوس. قوله: ﴿ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ﴾ الخ، ذكر ذلك رداً على من يعبد الشمس وغيرها من دون الله، لأنه لا يستحق العبادة إلا من هو قادر على من في السماوات والأرض، عالم بجميع المعلومات. قوله: (أي أن يسجدوا له) أشار بذلك إلى أنه على هذه القراءة تكون ﴿ أَنْ ﴾ ناصبة، و ﴿ لاَّ ﴾ زائدة، و ﴿ يَسْجُدُواْ ﴾ فعل مضارع منصوب بأن، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعل، وعليها فلا يجوز الوقف على ﴿ يَهْتَدُونَ ﴾ لأنه من تتمته، كأنه قال: فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا الخ، وقرأ الكسائي بتخفيف ألا، وتوجيهها أن يقال إن لا للافتتاح، ويا حرف تنبيه، واسجدوا فعل أمر، لكن سقطت ألف يا وهمزة الوصل من اسجدوا خطأ، ووصلت الياء بسين اسجدوا، فاتحدت القراءتان لفظاً وخطاً، وهناك وجه آخر في هذه القراءة، وهو أن يا حرف نداء والمنادى محذوف، والتقدير ألا يا هؤلاء وهو ضعيف، لئلا يؤدي إلى حذف كثير من غير ما يدل على المحذوف. قوله: (من المطر والنبات) لف ونشر مرتب، فالمطر هو المخبوء في السماوات، والنبات هو المخبوء في الأرض.


الصفحة التالية
Icon