قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ هذا شروع في ذكر قصة غزوة الأحزاب، وكانت في سؤال سنة أربع وقيل خمس،" وسببها أنه لما وقع إجلاء بني النضير من أماكنهم، سار منهم جمع أكابرهم، منهم حيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع، وأبو عمار الواثلي، في نفر من بني النضير، إلى أن قدموا مكة على قريش، فحرضوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فقال أبو سفيان: مرحباً وأهلاً، وأحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد، ثم قالت قريش لأولئك اليهود: يا معشر اليهود، إنكم أهل الكتاب الأول، فأخبرونا أنحن على الحق أم محمد؟ فقالوا: بل أنتم على الحق، فأنزل الله ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ ﴾ إلى قوله: ﴿ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً ﴾ فلما قالوا ذلك لقريش، سرهم ونشطوا لحرب محمد، ثم خرج أولئك اليهود، حتى جاءوا غطفان وقيس غيلان فاجتمعوا على ذلك، وخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن، ولما تهيأ الكل للخروج، أتى ركب من خزاعة في أربع ليال، حتى أخبروا محمداً بما اجتمعوا عليه، فشرع في حفر الخندق، بإشارة سلمان، الفارسي فقال له: يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حاصرونا خندقنا علينا، فعمل فيه النبي والمسلمون حتى احكموه، وكان النبي يقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً، ومكثوا في حفره ستة أيام، وقيل خمسة عشر، وقيل أربعة وعشرين، وقيل شهراً. قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار في أربعين ذراعاً، فحفرنا وإذا ببطن الخندق صخرة كسرت حديدنا وشقت علينا، فقلنا: يا سلمان ارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بخبر هذه الصخرة، فأتى سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله خرجت لنا صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق صخرة كسرت حديدنا وشقت علينا، فمرنا فيها بأمرك، فإنا لا نحب أن نجاوز خطتك، فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان إلى الخندق، وأخذ المعول مع سلمان، وضربها به ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، يعني المدينة، حتى كأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر المسلمون معه، ثم ضربها الثانية، فبرق منها مثل الأول، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر المسلمون معه، ثم ضربها الثالثة فكسرها، فبرق منها برق مثل الأول، وأخذ بيد سليمان ورقي، فقال: يأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد رأيت شيئاً ما رأيت مثله قط، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم وقال: " أرأيتم ما يقول سلمان "؟ قالوا: نعم، قال: ضربت ضربتي الأولى، فبرق البرق الذي رأيتم، فأضاء لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثانية، فبرق لي الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور قيصر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثالثة، فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور صنعاء، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا، فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعد صدق، وعدنا النصر بعد الحصر، فقال المنافقون: ألا تعجبون؟ يمينكم ويعدكم الباطل، ويخبر أنه ينظر من يثرب، قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفزون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا؟ فنزل قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً ﴾ وقوله تعالى: ﴿ قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ ﴾ الآية فلما فرغوا من حفره، أقبلت قريش والقبائل وجملتهم اثنا عشر ألفاً، فنزلوا حول المدينة، والخندق بينهم وبين المسلمين، فلما رأته قريش قالوا: هذه مكيدة لم تكن العرب تعرفها، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره والخندق بينهم وبين القوم، وخرج عدو الله حيي بن أخطب رئيس بني النضير، حتى أتى كعب بن أسد القرظي سيد بن قريظة، فلما سمع كعب حيياً، أغلق دونه حصنه، فاستأذن عليه، فأبى أن يفتح له وقال له: ويحك يا حيي إنك امرؤ ميشوم، إني عاهدت محمداً فلست بناقض، فإني لم أر منه إلا وفاء وصدقاً، فما زال حيي به ويقول له: جئتك بعز الدهر، حتى فتح له ونقض عهد رسول الله، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله، بعث لهم سعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج، وعبد الله بن رواحة، فوجدوهم نفضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشاتموهم وقالوا لهم: لا عهد بيننا وبينكم، ورجعوا وأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين، فشرعوا يترامون مع المسلمين بالنبل، ومكثوا في ذلك الحصار خمسة عشر يوماً فاشتد على المسلمين الخوف، ثم إن نعيم بن مسعود الأشجعي من غطفان، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إني أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " أخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة "، فخرج نعيم حتى أتى بني قريظة، وكان نديماً لهم في الجاهلية، فقال لهم: قد عرفتم ودي إياكمن وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشاً وغطفان جاءوا لحرب محمد، وقد ظاهرتموهم عليه، وإن قريشاً وغطفان ليسوا كهيئتهم، البلد بلدكم، به أموالكم وأولادكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره، وإن رأوا نهزة وغنيمة أصابوا، وإن كان غير ذلك، لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبين هذا الرجل، ولا طاقة لكم عليه إن خلا بكم، فلا تقاتلوه مع القوم حتى تأخذوا رهناً من أشرافهم، يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمداً، حتى لا يتأخروا، قالوا: لقد أشرت برأي ونصح، ثم خرج حتى أتى قريشاً، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه: قد عرفتم ودي وإياكم وفراقي محمداً، فقد بلغني أمر، رأيت حقاً علي أن أبلغكم نصحاً لكم فاكتموا علي، قالوا: نفعل، قال: تعلمون أن معشر يهود، قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك منا أن نأخذ من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم، فنعطيكم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم، فأرسل إليهم أن نعم، فإن بعث إليكم يهود يلتمسون رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً، ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان، أنتم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهموني، قالوا: صدقت، قال: فاكتموا علي، قالوا: نفعل، فقال لهم مثل ما قال لقريش، وحذرهم مثل ما حذرهم، فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً، ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم أن اليوم السبتـ ولا هو يوم نعمل فيه شيئاً، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً، فأصابهم ما لم يخف عليكم، ولسنا من الذين نقاتل معكم، حتى تعطونا رهناً من رجالكم، يكون بأيدينا ثقة لنا، حتى نناجز معكم محمداً، فإنا نخشى إن ضرمتكم الحرب، واشتد عليكم القتال، أن تسيروا إلى بلادكم وتتركونا، والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك من محمد، فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: تعلمون والله أن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن وجدوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انتهزوا إلى بلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل في بلادكم، فأرسلوا إلى قريش وغطفان، إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً، فأبوا عليهم، وخذل الله عز وجل بينهم، وبعث الله عليهم ريحاً عاصفاً، وهي ريح الصبا، في ليلة شديدة البرد والظلمة، فقلعت بيوتهم، وقطعت أطنابهم، وكفأت قدورهم، وصارت تلقي الرجل على الأرض، وأسل الله الملائكة فزلزلهم ولم تقاتل، بل نفثت في قلوبهم الرعب، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم "، أدخله الله الجنة، فما قام منا رجل، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل، ثم التفت إلينا فقال مثله، فسكت القوم، وما قام منا أحد من شدة الخوف والجوع والبرد، ثم قال: يا حذيفة، فقلت: لبيك يا رسول الله وقمت حتى أتيته، فأخذ بيدي ومسح رأسي ووجهي ثم قال: ائت هؤلاء القوم حتى تأتيني بخبرهم، ولا تحدثن شيئاً حتى ترجع إلي، ثم قال: اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته، فأخذت سهمي ثم انطلقت أمشي نحوهم، كأنما أمشي في حمام، فذهبت فدخلت في القوم، وقد أرسل الله عليهم ريحاً وجنوداً لله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء، وأبو سفيان قاعد يصلي، فأخذت سهماً فوضعته في كبد قوسي، فأردت أن أرميهن ولو رميته لأصبته، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحدثن حدثاً حتى ترجع، فرددت سهمي في كنانتي، فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله بهم، لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء، فقال يا معشر قريش، ليأخذ كل منكم بيد فلان رجل من هوازن، فقال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، فقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل، ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه ثم ضربه فوثب على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو الله صلى الله عليه وسلم كأني أمشي في حمام، فأتيته وهو قائم يصلي، فلما سلم أخبرته، فضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل، فلما أخبرته وفرغت قررت وذهب عني الدفأ، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم فأنامني عند رجليه، وألقى علي طرف ثوبه، وألصق صدري ببطن قدميه، فلم أزل نائماً حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: قم يا نومان. "قوله: ﴿ إِذْ جَآءُوكُمْ ﴾ بدل من ﴿ نِعْمَةَ ﴾ والعامل ﴿ ٱذْكُرُواْ ﴾.
قوله: (متحزبون) أي مجتمعون، وتقدم أنهم كانوا اثني عشر ألفاً، وكان المسلمون إذ ذاك ثلاثة آلاف، والمنافقون من جملتهم. قوله: ﴿ رِيحاً ﴾ أي من الصبا التي تهب من المشرق ولم تتجاوزوهم. قوله: (ملائكة) أي وكانوا ألفاً ولم يقاتلوا، وإنما ألقوا الرعب في قلوبهم. قوله: (وبالياء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ إِذْ جَآءُوكُمْ ﴾ بدل من إذا جاءتكم. قوله: (من أعلى الوادي) أي وهم أسد وغطفان. قوله: (وأسفله) أي وهم قريش وكنانة. قوله: (من المشرق والمغرب) لف ونشر مرتب. قوله: (من كل جانب) أي المحيط من كل جانب. قوله: (وهي منتهى الحلقوم) أي من أسفله. قوله: ﴿ ٱلظُّنُونَاْ ﴾ بألف بعد النون وصلاً ووقفاً، وبدونها في الحالين، وبإثباتها وقفاً، وحذفها وصلاً، ثلاث قراءات سبعيات، وتجري في قوله أيضا ﴿ ٱلسَّبِيلاْ ﴾ و ﴿ ٱلرَّسُولاَ ﴾ في آخر السورة. قوله: (بالنصر) أي من المؤمنين، وقوله: (واليأس) أي من المنافقين وبعض الضعفاء. قوله: ﴿ هُنَالِكَ ﴾ ظرف مكان أي في ذلك المكان وهو الخندق. قوله: ﴿ زِلْزَالاً ﴾ بكسر الزاي في قراءة العامة، وقرئ شذوذاً بفتح الزاي، وهما لغتان في مصدر الفعل المضعف إذا جاء على فعلان، كصلصال وقلقال. قوله: ﴿ وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ ﴾ إلخ، القائل معتب بن بشير، وقال أيضاً: يعدنا محمد بفتح فارس والروم، وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقاً وخوفاً، ما هذا إلا وعد غرور. قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ ﴾ القائل وهو أوس بن قيظي، بكسر الظاء المعجمة من رؤساء المنافقين. قوله: (هي أرض المدينة) أي فسميت باسم رجل من العمالقة كان نزلها قديماً، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تسميتها بذلك، وسماها طيبة وطابة وقبة الإسلام ودار الهجرة. قوله: (ووزن الفعل) أي فهي على وزن يضرب. قوله: (بضم الميم وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (ولا مكانة) أي تمكنا فهو بمعنى الإقامة. قوله: (جبل خارج المدينة) أي بينهما وبين الخندق، فجعل المسلمون ظهورهم إليه ووجوهم للعدو. قوله: ﴿ وَيَسْتَئْذِنُ ﴾ عطف على ﴿ قَالَت طَّآئِفَةٌ ﴾ وعبر بالمضارع استحضاراً للصورة. قوله: (يخشى عليها) أي من السراق لكونها قصيرة البناء. قوله: (قال تعالى) أي تكذيباً لهم.