قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ ﴾ إلخ، هذه الآية نزلت في شأن وليمة زينب بنت جحش، حين بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أنس بن مالك قال: كنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل، وكان أول ما أنزل في بناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، حين أصبح النبي صلى الله عليه وسلم بها عروساً، فدعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا، وبقي رهط عند النبي صلى الله عليه وسلم فأطالوا المكث، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج، وخرجت معه لكي يخرجوا، فمشى النبي صلى الله عليه وسلم ومشيت، حتى جاء عتبة حجرة عائشة، ثم ظن أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه، حتى إذا دخل على زينب، فإذا هم جلوس لم يقوموا، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم ورجعت، حتى إذا بلغ حجرة عائشة، وظن أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه، فإذا هم قد خرجوا، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينه الستر، وأنزل الحجاب. قوله: ﴿ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ﴾ أي إلا بسبب الإذن لكم. ﴿ إِلَىٰ طَعَامٍ ﴾ متعلق بيؤذن لتضمينه معنى يدعى كما قدره المفسر. قوله: (فتدخلوا) ﴿ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ﴾ هذا التقدير غير مناسب، لأنه يقتضي أن الدخول مع الإذن، لا يجوز معه انتظار نضج الطعام، مع أنه يجوز، فالمناسب حذف هذا التقدير، إذ هذه الآية نزلت في قوم كانوا يدخلون من غير إذن، وينتظرون نضج الطعام، فنهاهم الله عن كل من الأمرين. والحاصل: أن أسباب النزول في هذه الآيات تعددت، منها: أن قوماً كانوا يدخلون بيوت النبي بغير دعوى وينتظرون نضج الطعام، ومنها: أن قوماً كانوا يدخلون بإذن ويتخلفون بعدها طعموا مستأنسين لحديث، ومنها: مؤاكلة الأجانب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضور زوجاته، فنزلت آية الحجاب، ونهى عن ذلك كله، وهذه آيات الحجاب الخصوص أمهات المؤمنين، وأما لعموم الأمة، فقد تقدم في سورة النور تأمل. قوله: (مصدر أنى يأنى) أي من باب رمى، وقياس مصدر أنى، لكن لم يسمع، وإنما المسموع إنى بالكسر والقصر. قوله: ﴿ فَإِذَا طَعِمْتُمْ ﴾ أي أكلتم الطعام. قوله: ﴿ فَٱنْتَشِرُواْ ﴾ أي اذهبوا حيث شئتم في الحال، ولا تمكثوا بعد الأكل والشرب. قوله: ﴿ وَلاَ ﴾ (تمكثوا) ﴿ مُسْتَأْنِسِينَ ﴾ أشار بذلك إلى أن ﴿ مُسْتَأْنِسِينَ ﴾ حال من محذوف، وذلك المحذوف معطوف على انتشروا. قوله: ﴿ كَانَ يُؤْذِي ٱلنَّبِيَّ ﴾ أي لتضييقه عليه. قوله: ﴿ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ﴾ أي من إخراجكم. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ ٱلْحَقِّ ﴾ المراد بالحق إخراجكم من منزله، وأطلق الاستحياء في حق الله، وأريد لزمه وهو ترك البيان. قوله: (بياء واحدة) أي قراءة شاذة في الثاني. قوله: ﴿ فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ﴾ روي أن عمر قال: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فنزلت، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل بعض أصحابه، فأصابت يد رجل منهم عائشة، وهي تأكل معهم، فكره النبي ذلك، فنزلت هذه الآية. قوله: ﴿ ذٰلِكُمْ ﴾ أي ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن، وعدم الاستئناس للحديث، وسؤال المتاع من وراء الحجاب. قوله: (من الخواطر المريبة) أي أنفى وأبعد لدفع الريبة والتهمة، وهو يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة، مع من لا تحل له، فإنه مجانبة ذلك أحسن لحاله وأحصن لنفسه. قوله: ﴿ وَمَا كَانَ لَكُمْ ﴾ أي ما صح وما استقام لكم، وقوله: ﴿ أَن تؤْذُواْ ﴾ وهو اسم ﴿ كَانَ ﴾، و ﴿ لَكُمْ ﴾ خبرها، و ﴿ أَن تَنكِحُوۤاْ ﴾ عطف على اسم ﴿ كَانَ ﴾ نزلت هذه الآية في رجل من الصحابة يقال له طلحة بن عبيد الله، قال في سره: إذا قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نكحت عائشة، ثم ندم هذا الرجل، ومشى على رجليه، وحمل على عشرة أفراس في سبيل الله، وأعتق رقبة، فكفر الله عنه. قوله: ﴿ مِن بَعْدِهِ ﴾ أي بعد وفاته أو فراقه، ولو قبل الدخول بها، لأم كل من عقد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأبد تحريمها على أمته، وأما إماؤه فلا يحرمن على غيره إلا بمسه لهن. قوله: ﴿ إِنَّ ذٰلِكُمْ ﴾ أي ما ذكر من إيذائه ونكاح أزواجه من بعده. قوله: ﴿ إِن تُبْدُواْ شَيْئاً ﴾ أي تظهروه على السنتكم، وقوله: ﴿ أَوْ تُخْفُوهُ ﴾ أي في صدوركم، وقوله: (فيجازيكم عليه) جواب الشرط، وقوله: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾ تعليل للجواب وهو بمعنى قوله تعالى:﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ﴾[البقرة: ٢٨٤].
قوله: ﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِيۤ آبَآئِهِنَّ ﴾ إلخ، هذا في المعنى مستثنى من قوله: ﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً ﴾ الآية، روي أنه لما نزلت آية الحجاب قال آباؤهن وآبناؤهن: يا رسول الله أو نكلمهن أيضاً من وراء حجاب، فنزلت هذه الآية. وقوله: ﴿ فِيۤ آبَآئِهِنَّ ﴾ أي أصولهن وإن علوا، وقوله: ﴿ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ ﴾ المراد فروعهن وإن سفلوا. قوله: ﴿ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ ﴾.
الإضافة من حيث المشاركة في الوصف وهو الإسلام، فقول المفسر (أي المؤمنات) تفسير للمضاف، ومفهومه أن النساء الكافرات، لا يجوز لهن النظر لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهو كذلك، ولا مفهوم لأزواج النبي، بل جميع النساء المسلمات كذلك، فلا يحل للمسلمة أن تبدي شيئاً منها للكافرة، لئلا تصفها لزوجها الكافر. قوله: ﴿ وَٱتَّقِينَ ٱللَّهَ ﴾ عطف على محذوف، والتقدير امتثلن ما أمرتن به، واتقين الله، وحكمة تخصيص الحجاب هنا بأمهات المؤمنين، وإن تقدم في سورة النور عموماً دفع توهم أن أزواج النبي كالأمهات من كل وجه، فأفاد هنا أنهن كالأمهات في التعظيم والتوقير، لا في الخلوة والنظر، فإنهن كالأجانب بل هن أشد، فذكر لهن حجاباً مخصوصاً، فلا يقال إنه مكرر مع ما تقدم في النور. قوله: (لا يخفى عليه شيء) أي من الطاعات والمعاصي الظاهرة والخفية. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ ﴾ إلخ، هذه الآية فيها أعظم دليل على أنه صلى الله عليه وسلم مهبط الرحمات، وأفضل الخلق على الإطلاق، إذ الصلاة من الله على نبيه، ورحمته المقرونة بالتعظيم، ومن الله على غير النبي مطلق الرحمة، لقوله تعالى:﴿ هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ ﴾[الأحزاب: ٤٣] فانظر الفرق بين الصلاتين، والفضل بين المقامين. قوله: ﴿ وَمَلاَئِكَـتَهُ ﴾ بالنصب معطوف على اسم ﴿ إِنَّ ﴾، وقوله: ﴿ يُصَلُّونَ ﴾ خبر عن الملائكة، وخبر لفظ الجلالة محذوف تقديره: إن الله يصلي وملائكته يصلون، وهذا هو الأتم لتغاير الصلاتين، والمراد بالملائكة جميعهم، والصلاة من الملائكة الدعاء للنبي بما يليق به، وهو الرحمة المقرونة بالتعظيم، وحينئذ فقد وسعت رحمة النبي كل شيء، تبعاً لرحمة الله، فصار بذلك مهبط الرحمات، ومنبع التجليات. قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ ﴾ أي ادعوا له بما يليق به، وحكمة صلاة الملائكة والمؤمنين على النبي تشريفهم بذلك، حيث اقتدوا بالله في مطلق الصلاة، وإظهار تعظيمه صلى الله عليه وسلم، ومكافأة لبعض حقوقه على الخلق، لأنه الواسطة العظمى في كل نعمة وصلت لهم، وحق على من وصل له نعمة من شخص أن يكافئه، فصلاة جميع الخلق عليه، مكافأة لبعض ما يجب عليهم من حقوقه. إن قلت: إن صلاتهم طلب من الله أن يصلي عليه، وهو مصل عليه مطلقاً طلبوا أو لا؟ أجيب: بأن الخلق لما كانوا عاجزين عن مكافأته صلى الله عليه وسلم؛ طلبوا من القادر المالك أن يكافئه، ولا شك أن الصلاة الواصلة للنبي صلى الله عليه وسلم من الله لا تقف عند حد، فكلما طلبت من الله، زادت على نبيه، فهي دائمة بدوام الله. قوله: ﴿ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ﴾ إن قلت: خص السلام بالمؤمنين، دون الله والملائكة. أجيب بأن هذه الآية لما ذكرت عقب ذكر ما يؤذي النبي، والأذية إنما هي من البشر، فناسب للتخصيص بهم، لأن في السلام سلامة من الآفات، وأكد السلام دون الصلاة، لأنها لما أسندت لله وملائكته، كانت غبية عن التأكيد. واعلم أن العلماء اتفقوا على وجوب الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم اختلفوا في تعيين الواجب، فعند مالك تجب الصلاة والسلام في العمر مرة، وعند الشافعي تجب في التشهد الأخير من كل فرض، وعند غيرهما تجب في كل مجلس مرة، وقيل: تجب عند ذكره، وقيل: يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد، وبالجملة فالصلاة على الني أمرها عظيم، وفضلها جسيم، وهي من أفضل الطاعات، وأجل القربات، حتى قال بعض العارفين: إنها توصل إلى الله تعالى من غير شيخ، لأن الشيخ والسمد فيها صاحبها، لأن تعرض عليه، ويصلى على المصلي بخلاف غيرها من الأذكار، فلا بد فيها من الشيخ العارف، وإلا دخلها الشيطان، ولم ينتفع صاحبها بها. قوله: (أي قولوا اللهم صلِّ على محمد وسلم) أي اجمعوا بين الصلاة والسلام، وصيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة لا تحصى وأفضلها ما ذكره فيه لفظ الآل والصحب، فمن تمسك بأي صيغة منها، حصل له الخير العظيم.