قوله: ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ ﴾ أشار المفسر إلى أن قوله: (معه) ظرف متعلق بالسعي، وفيه أنه يلزم عليه تقدم صلة المصدر المؤول من (أن) والفعل عليه وهو لا يجوز، وأجيب: بأنه يغتفر في الظروف ما لا يغتفر في غيرها، ويصح جعله متعلقاً بمحذوف على سبيل البيان، كأن قائلاً قال: مع من بلغ السعي؟ فقيل: بلغ معه، ولا يصح جعله متعلقاً ببلغ، ولا حالاً من ضميره، لأنه يوهم اقترانهما في بلوغ السعي، لأن المصاحبة تقتضي المشاركة، مع أن المقصود، وصف الصغير بذلك فقط. قوله: ﴿ قَالَ يٰبُنَيَّ ﴾ جواب لما، والحكمة في ذلك: أن إبراهيم اتخذه الله تعالى خليلاً، والخلة هي صفاء المودة، ومن شأنها عدم مشاركة الغير مع الخليل، وكان قد سأل ربه الولد، فلما وهبه له، تعلقت شعبة من قلبه بمحبته، فجاءت غير الخلة تنزعها من قلب الخليل، فأمر بذبح المحبوب، لتظهر صفاء الخلة وعدم المشاركة فيها، حيث امتثل أمر ربهن وقدم محبته على محبة ولده. قوله: (أي رأيت) أشار بذلك إلى أن الرؤيا وقعت بالفعل، لما روي: أنه ليلة التروية، أن قائلاً يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك، فلما أصبح فكر في نفسه أنه من الله، فلما أمسى رأى مثل ذلك في الليلة الثانية، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة، فهم بنحره فقال له: ﴿ يٰبُنَيَّ ﴾ إلخ، ولذلك سميت الأيام الثلاثة: بالتروية، وعرفة، والنحر، لأنه في اليوم الأول تروى، وفي الثاني عرف، وفي الثالث نحر. قوله: ﴿ أَنِّي أَذْبَحُكَ ﴾ أي أفعل الذبح، أو أمرت، به، احتمالان: ويشير للأول قوله: ﴿ قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ ﴾، وللثاني. قوله: ﴿ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ ﴾.
قوله: ﴿ مَاذَا تَرَىٰ ﴾ يصح أن تكون ﴿ مَاذَا ﴾ مركبة، وحينئذ فهي منصوبة بترى، وما بعدها في محل نصب بالنظر، لأنها معلقة له، ويصح أن تكون ما استفهامية، وذا موصولة، فتكون ﴿ مَاذَا ﴾ مبتدأ وخبراً، وقوله: ﴿ تَرَىٰ ﴾ بفتحتين من الرأي، وفي قراءة سبعية ترى بالضم والكسر، والمفعولان محذوفان، أي تريني إياه من صبرك واحتمالك، وقرئ شذوذاً بضم ففتح، أي ما يخيل لك. قوله: (شاروه ليأنس) إلخ، أي وليعلم صبره وعزيمته على طاعة الله. قوله: ﴿ قَالَ يٰأَبَتِ ﴾ أي بفتح التاء وكسرها، قراءتان سبعيتان. قوله: (التاء عوض عن ياء الإضافة) أي فهي في محل جر، كما كانت الياء في محل جر. قوله: ﴿ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ ﴾ قال ابن اسحاق وغيره: لما أمر إبراهيم بذلك قال لابنه: يا بني، خذ هذا الحبل والمدية، وانطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب، فلما خلا بابنه في الشعب، أخبره بما أمره الله به، فقال: ﴿ قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ ﴾.
قوله: ﴿ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ﴾ أتى بها تبركاً وإشارة إلى أنه لا حول عن المعصية إلا بعصمة الله، ولا قوة على الطاعة إلا بمعونة الله. قوله: ﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا ﴾ أي الوالد والولد. قوله: ﴿ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ أي صرعه ورماه على شقه فوق التل الذي هو المكان المرتفع، قال ابن عباس: لما فعل ذلك الابن قال: يا أبت اسدد رباطي كي لا أضطرب، واكفف ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء، فينقص أجري، وتراه أمي فتحزن، واستحد شفرتك، وأسرع بها على حلقي، ليكون أهون علي، وإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني، وإن رأيت أن ترد قميصي عليها فافعل، فإنه عسى أن يكون أسلى لها عني، فقال إبراهيم: نعم العون أنت يا بني على أمر الله، ففعل إبراهيم ما أمر به ابنه، ثم أقبل عليه وهو يبكي، والابن يبكي، فلما وضع السكين على حلقه فلم تؤثر شيئاً، فاشتدها بالحجر مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك لا تستطيع أن تقطع شيئاً، فمنعت بقدرة الله تعالى، وقيل: ضرب الله صفيحة من نحاس على حلقه، والأول أبلغ في القدرة الإلهية، وهو منع الحديد عن اللحم، فعند ذلك قال الابن: يا أبت كبني لوجهي على جبيني، فإنك إذا نظرت في وجهي رحمتني، فأدركتك رأفة تحول بينك وبين أمر الله، وأنا أنظر إلى الشفرة فأجزع منها، ففعل ذلك إبراهيم، ثم وضع السكين على قفاه فانقلبت، فنودي ﴿ يٰإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ ﴾ إلخ. قوله: (بمنى) يذكر ويؤنث وبصرف ويمنع من الصرف باعتبار المكان والبقعة. قوله: (وأمرَّ السكين) هذا أحد قولين مشهورين، وهو ما تقدم عن ابن عباس، والآخر: أنه لم يمرّ السكين، بل لما أضجعه وأراد أم يمرَّ السكين جاءه النداء، وبالأول استدل أهل السنة، على أن الأمور العادية لا تؤثر شيئاً، لا بنفسها، ولا بقوة أودعها الله فيها، وإنما المؤثر هو الله تعالى، فتخلف القطع في ولد إبراهيم، وتخلف الاحراق في إبراهيم. قوله: (فجملة ناديناه جواب لما) إلخ، هذا أحد أوجه ثلاثة، والثاني أنه محذوف تقديره ظهر صبرهما، أو أجز لنا لهما الأجر، والثالث أن قوله: ﴿ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ بزيادة الواو. قوله: (بإفراج الشدة) المناسب أن يقول: بتفريج الشدة أو بفرجها، لأن الفعل فرج بالتخفيف والتشديد، فمصدره إما التفريج أو الفرج.


الصفحة التالية
Icon