قوله: ﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ ﴾ الخ، الفاء للفصيحة، لكونها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذ علمتم أحوال المؤمنين، وأنهم أحباب الله، وأحوال الكافرين، وأنهم أعداء الله، فالواجب على أحباب الله، أن يقاتلوا أعداء الله. قوله: (بدل من اللفظ بفعله) أي فهو نائب عن الفعل في المعنى، والعمل على الصحيح، وقيل في المعنى دون العمل والأصل: فاضربوا الرقاب ضرباً، حذف الفعل، وأتى بالمصدر محله، وأضيف إلى مفعول الفعل وهو الرقاب، وهو عامل في الظرف أيضاً. قوله: (أي اقتلوهم) أي فأراد بضرب الرقاب، مطلق القتل على أي حالة كانت، لا خصوص ضرب الرقاب. قوله: ﴿ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ ﴾ ﴿ حَتَّىٰ ﴾ ابتدائية، والمعنى: فإذا عجزتموهم بأي وجه من الوجوه، إما بكثرة القتل وهو الغالب، أو بقطع الماء عنهم، أو بأخذ أسلحتهم، أو غير ذلك فأسروهم. قوله: (أي فامسكوا) أشار بذلك إلى أن في الكلام تقدير جملتين: الإمساك عن القتل والأسر. قوله: (بدل من اللفظ بفعله) أي وجيء به لتفصيل جملة، فوجب إضمار عامله، والتقدير: فإما أن تمنوا مناً، وإما أن تفدوا فداء. قوله: ﴿ بَعْدُ ﴾ أي بعد أسرهم وشد وثاقهم، والمعنى: أن المسلمين بعد القدرة على الكفار، يخيرون فيهم بين أمور أربعة: القتل والمن والفداء والاسترقاق، وهذا في الرجال المقاتلين، وأما النساء والصبيان، فليس فيهم إلا المن الفداء والاسترقاق، وأما المن والفداء فمنسوخان بعد بدر. قوله: (أو أسارى) بالضم والفتح، أو بفتح فسكون فراء مفتوحة. قوله: (أي أهلها) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله: (بأن يسلم الكفار) أي فالمراد بوضع آلة القتال، ترك القتال لانفضاض شوكة الكفر، ففي الكلام استعارة تبعية، حيث شبه ترك القتال بوضع آلته، واشتق من الوضع تضع بمعنى تترك. قوله: (وهذه غاية للقتل) أي المذكور في قوله: (فضرب الرقاب) وقوله: (والأسر) أي المذكور في قوله: ﴿ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ ﴾.
قوله: (ما ذكر) أي من القتل والأسر وما بعدهما. قوله: (بغير قتال) أي كالخسف. قوله: ﴿ لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ أي ليظهر لعباده حال الصادق في الإيمان من غيره، قال تعالى:﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ ﴾[محمد: ٣١].
قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ ﴾ مبتدأ، وقوله: ﴿ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ خبره. قوله: (وفي قراءة قاتلوا) أي وهي سبعية أيضاً مفسرة للقراءات الأولى، وحينئذ فليس المراد قتلوا بالفعل، بل المراد قاتلوا قتلوا أو لا. قوله: (وقد فشا) الخ، الجملة حالية، وقوله: (القتل) ورد أنهم سبعون، وقوله: (والجراحات) أي الكثير، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذا الوعد الحسن، لكل من قاتل في سبيل الله، لنصر دينه إلى يوم القيامة، قتل أو جرح أو سلم. قوله: ﴿ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ أي سواء نشأت منهم أو تسببوا فيها. قوله: (إلى ما ينفعهم) أي فالذي ينفعهم في الدنيا، العمل الصالح والإخلاص فيه، والذي ينفعهم في الآخرة، الجنة وما فيها، وحينئذ فلا يقع منهم ما يخالف أمر الله، لحفظ الله إياهم من المخالفات، ومنه حديث:" اطلع الله على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم "وليس فيه توهم إباحة المعاصي لأهل بدر، بل المعنى: كما أفنيتم نفوسكم في محبتي، وخرجتم عن شهواتكم في رضاي، جازيتكم بالحفظ مما يوجب سخطى، فاشتريت نفوسكم، فصارت لي راضية مرضية، قال تعالى:﴿ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ﴾[التوبة: ١١١] الآيات، ولهذا أشار العارف ابن وفار بقوله: وبعد الفنا في الله كن كيفما تشا فعلمك لا جهل وفعلك لا وزرقوله: (وما في الدنيا) أي من الهداية وإصلاح الحال، وقوله: (إن لم يقتل) جواب عما يقال: كيف قال سيهديهم ويصلح بالهم، يعني في الدنيا، مع أن الفرض أنهم قتلوا بالفعل؟ وأجيب: بأن ذلك يحصل في الدنيا إن لم يقتل، وعبر بالذين قتلا تغليباً لهم، أو لأنهم قتلوا حكماً بالنية. وأجيب أيضاً: بأن المراد بالذين قتلوا، الذين وقع منهم القتال، أعم من أن يقتلوا بالفعل أو لا، بدليل القراءة الأخرى. قوله: (فيهتدون إلى مساكنهم) الخ أي إذا دخلوها يتفرقون إلى منازلهم، فهم أعرف لها من أهل الجمعة، إذا انصرفوا إلى منازلهم ويؤيد هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام:" يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، حتى إذا هذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده، لأحدهم أهدى بمنزلة في الجنة، من منزله الذي كان في الدنيا "وما ورد: إن العبد المؤمن، لا يخرج من الدنيا، حتى يشاهد مسكنه في الجنة، وما أعده الله له من النعيم، ويفتح له طاقة في قبره، يشاهد ذلك ما دام في البرزخ، وأن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر في الجنة، وأرواح الأنبياء في قناديل من ذهب معلقة في العرش، تسرح وتأوي إليها. وقيل: معنى عرفها لهم، طيبها من العرف، وهو طيب الرائحة. قوله: (يثبتكم) أشار بذلك إلى أن المراد بالأقدام الذوات بتمامها، وعبر عنها بالأقدام، لأن الثبات والتزلزل يظهران فيها. قوله: (خبرت تعسوا) الخ، أشار بذلك إلى أن الفاء في قوله: ﴿ فَتَعْساً ﴾ داخلة على محذوف هو الخبر، و ﴿ تَعْساً ﴾ مفعول مطلق لذلك المحذوف، وحينئذ فالمناسب للمفسر أن يقدر الخبر بعد الفاء. قوله: (أي هلاكاً وخيبة لهم) هذان قولان من عشرة أقوال في معنى التعس، وقيل خزياً لهم، وقيل شقاء لهم، وقيل شتماً لهم من الله، وقيل قبحاً لهم، وقيل رغماً لهم، وقيل شراً لهم، وقيل شقوة لهم، وقيل التعس الانحطاط والعثار، وكلها معان متقاربة، وهو في الأصل أن يخر لوجهه، والنكس أن لا يستقل بعد سقطته، حتى يسقط هو ثانية، وهو أشد من الأولى، وضده الانتعاش، وهو قيام من سقط. قوله: ﴿ ذَلِكَ ﴾ مبتدأ خبره الجار والمجرور بعده، ويصح أن يكون اسم الإشارة خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر ذلك. قوله: (المشتمل على التكاليف) أي فهذا وجه كراهتهم له، وذلك لأن في التكاليف ترك الملاذ والشهوات، والنفوس الخبيثة تكره ذلك، وتحب إرخاء العنان لها في الشهوات، فمن تبع نفسه من كل وجه كفر، فعلى الإنسان أن يجاهد نفسه، حتى تصير معتادة ما يرضاه الله تعالى، ففي الحديث:" لا يكمل إيمان أحدكم، حتى يكون هواه تابعاً لما جئت به "فالأصل في النفوس الخسة، لا تجر لصاحبها خيراً، ولا تسعى إلا فيما يغضب الله، فإذا شمر الإنسان عن ساعد الجد والاجتهاد، وخالف هوى نفسه، سكن وهجها واضمحلت شهوتها، فإذا دام ذلك، حسن حالها، وصارت جميلة الأخلاق مطمئنة بخالقها، نسأل الله أن يملكنا نفوسنا، ولا يسلطها علينا.