قوله: ﴿ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ ﴾ الخ، يقال: سخر منه سخراً، من باب تعب، والاسم السخرية بضم السين وكسرها، والسخرة بوزن غرفة، ما سخرته من خادم أو دابة بلا أجرة أو ثمن. قوله: (سخروا من فقراء المسلمين) أي لما رأوا من رثاثة حالهم وتقشفهم، وهذا كان في أول إسلامهم قبل تمكنهم منه، وإلا فقد صاروا بعد ذلك إخواناً متحابين في الله. قوله: (كعمار) الخ، أي وهم أهل الصفة، الذين قال الله فيهم﴿ لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾[البقرة: ٢٧٣] الآية. قوله: (أي رجال منكم) أشار بذلك إلى أن القوم اسم جمع، بمعنى الرجال خاصة، واحدة في المعنى رجل، وقيل: جمع لا واحد له، من لفظه يدل على تخصيصه بالرجال، مقابلته بقوله: ﴿ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ ﴾ وهذا هو الموافق لأصل اللغة، قال الشاعر: وما أدري ولست أخال أدري أقوم آل حصن أم نساءوأما قوله تعالى﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ﴾[الحج: ٤٢] ونحوه، فالمراد ما يشمل النساء، لكن بطريق التبع، لأن قوم كل نبي رجال ونساء، وسمي الرجال قوماً، لأنهم قوامون على النساء. قوله: (منكم) قيد به قوم المرفوع، وتركه في المجرور، ويصح تقييده بكل، ويقال نظيره في قوله: ﴿ وَلاَ نِسَآءٌ ﴾ الخ. قوله: ﴿ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ ﴾ الجملة مستأنفة لبيان العلة الموجبة للنهي، ولا خبر لعسى، لأنه يغني عنه فاعلها، والمعنى: لا يحتقر أحداً أحداً، فلعل من يحتقر، يكون عند الله أعلى وأجل ممن احتقره، وبالجملة فينبغي للإنسان أن لا يسخر بأخيه في الدين، بل ولا بأحد من خلق الله، فلعله يكون أخلص ضميراً، وأتقى قلباً ممن سخر به، ولقد بلغ بالسلف الصالح هذا الأمر، حتى قال بعضهم: لو رأيت رجلاً يرضع عنزاً فضحكت منه، لخشيت أن أصنع مثل ما صنع، وقال عبد الله بن مسعود: البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب، لخشيت أن أحول كلباً. قوله: ﴿ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ ﴾ قال أنس: نزلت في صفية بنت حيي، بلغها أن حفصة قالت: بنت يهودي فبكت، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال: ما يبكيك؟ قالت: قالت لي حفصة أني بنت يهودي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لابنة نبي، وعمك نبي، وإنك لتحت نبي، ففيم تفتخر عليك؟ ثم قال: اتقي الله يا حفصة. وذكر النساء لمزيد الإيضاح والتبيين، ولدفع توهم أن هذا النهي خاص بالرجال. قوله: ﴿ وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ ﴾ اللمز في الأصل الإشارة بالعين ونحوها. قوله:: (ولا تعيبوا فتعابوا) أشار بذلك إلى توجيه قوله: ﴿ أَنفُسَكُمْ ﴾ وذلك لأن الإنسان إذا عاب غيره، عابه ذلك الغير، فقد عاب الشخص نفسه بتسببه. قوله: (أي لا يعب بعضكم بعضاً) هذا توجيه آخرـ فكان الأولى للمفسر أن يأتي بأو، والمعنى: أن المؤمنين كشخص واحد، فمن عاب غيره، كأنه عاب نفسه، ومن هذا المعنى قول العارف: إذا شئت أن تحيا سعيداً من الردى وحفظ موفور وعرضك صينلسانك لا تكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسنوعينك إن أبدت إليك معايباً فدعها وقل يا عين للناس أعينفعاشر بمعروف وسامح من اعتدى وفارق ولكن بالتي هي أحسنقوله: ﴿ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ ﴾ النبز بفتح الباء اللقب مطلقاً، حسناً أو قبيحاً، ثم صار مخصوصاً بما يكره الشخص، وسبب نزول هذه الآية كما قال جبيرة بن الضحاك الأنصاري: قدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس منا رجل إلا له اسمان أو ثلاثة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا فلان، فيقولون: مه يا رسول الله، إنه يغضب من هذا الاسم، فأنزل الله هذه الآية، ومن ذلك الشتم كقولك لأخيه: يا كلب يا حمار ونحو ذلك، والمراد بهه الألقاب ما يكرهه المخاطب، وأما الألقاب التي صارت كالأعلام لأصحابها، كالأعمش والأعرج، وما أشبه ذلك، فلا بأس بها، إذا لم يكرهه المدعو بها، وأما الألقاب التي تشعر بالمدح فلا تكره، كما قيل لأبي بكر: عنيق، ولعمر فاروق، ولعثمان: ذو النورين، ولعلي: أبو تراب، ولخالد: سيف الله، ونحو ذلك. قوله: ﴿ بِئْسَ ٱلاسْمُ ﴾ ﴿ بِئْسَ ﴾ فعل ماض، والاسم فاعل، وقوله: ﴿ ٱلْفُسُوقُ ﴾ بدل من الاسم كما قال المفسر، وعليه بالمخصوص بالذم محذوف تقديره هو، والأوضح إعرابه مخصوصاً بالذم، والمراد بالاسم الذكر المرتفع. قوله: ﴿ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ ﴾ أي الاتصاف بالفسوق، بعد الاتصاف بالإيمان، والمراد بالفسوق: الخروج عن الطاعة. قوله: (لإفادة أنه) أي ما ذكر من السخرية، الخ. قوله: (لتكرره عادة) أي وإنه وإن كان المذكور صغيرة لا يفسق بها، لكنه في العادة يتكرر، فيصير كبيرة يفسق بها. قوله: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ أي الضارون لأنفسهم بمعاصيهم ومخالفتهم، ففي هذه الآيات وصف المؤمنين بالفسق والظلم، وإن كان في غالب الآيات، إطلاق الفسق والظلم على أهل الكفر.