قوله: (اذكر) أشار بذلك إلى أن ﴿ يَوْمَ ﴾ معمول لمحذوف، والجملة مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها، وهذا أحد قولين، والآخر أن الظرف متعلق بيأتوا، والمعنى: فليأتوا بشركائهم في ذلك اليوم، تنفعهم وتشفع لهم. قوله: (هو عبارة) الخ، أي هذا التركيب، و ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ﴾ كناية عن الشدة، فأصل هذا الكلام يقال لمن شمر عن ساقه عند العمل الشاق، ويقال إذا اشتد الأمر في الحرب: كشف الحرب عن ساق. وسئل ابن عباس عن هذه الآية فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فاتبعوه في الشعر، فإنه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر: سن لنا قومك ضرب الأعناق   وقامت الحرب بنا على ساقوقال الآخرألا رب ساهي الطرف من آل مازن   إذا شمرت عن ساقها الحرب شمراوقيل: المراد الحقيقة وعليه فاختلف فقيل: يكشف عن ساق جهنم، وقل: عن ساق العرش، وقيل: يكشف لهم الحجاب فيرون الله تعالى. ففي مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه،" أن ناساً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم قال: هل يضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس فيها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فما تضارون في رؤية الله تعالى يوم القيامة، إلا كما تضارون في رؤية أحدهما، أذا كان يوم القيامة أذن مؤذن، لنتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى لا يبقى إلا من كان يعبد الله، من بر وفاجر وغير أهل الكتاب، فتدعى اليهود فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيراً ابن الله، فيقال: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبه ولا ولد، فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا يا ربنا فاسقنا، فيشار إليهم ألا تردون؟ فيحشرون إلى النار، كأنهم سراب يحطم بعضها بعضاً، فيتساقطون في النار، ثم يدعى النصارى فيقال لهم: ماذا تعبدون؟ قالو: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبه ولا ولد، فيقال لهم: ماذا تبغون؟ فيقولون: عطشنا يا ربنا فاسقنا، فيشار إ ليهم ألا تردون؟ فيحشرون إلى جهنم كأنهم سراب عظيم بعضها بعضاً، فيتساقطون في النار، حتى لا يبقى إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر، أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها، قال: فماذا تنتظرون؟ لتتبع كل أمة ما كانت تبعد، قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئاً، مرتين أو ثلاثاً، حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفوه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه، إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء، إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فقال: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون: اللهم سلم سلم، قالوا: يا رسول الله وما الجسر. قال: دحض مزلقة فيها خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد، فيها شويكة قال لها السعدان، فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم، حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده، ما من أحد منكم بأشد من شدة الله في استفياء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين هم في النار، فيقولون: ربنا كانوا يصومون معنا، ويصلون ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقاً كثيراً، قد أخذت النار إلى نصف ساقه وإلى ركبته ثم يقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقال لهم: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، وثم يقولون: ربنا لم ندر فيها أحداً ممن أمرتنا به، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: يا ربنا لم نذر فيها مم أمرتنا به أحداً، ثم يقولن: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: يا ربنا لم نذر فيها خيراً ". وكان أبو سعيد يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرأوا إن شئتم﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ﴾[النساء: ٤٠] فيقول الله: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط، قد عادوا حمماً، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر، ما تكون إلى الشمس أصفر أو أخضر، وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض، قال: فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة، بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه، ثم يقول: ادخلوا الجنة فيما رأيتموه فهو لكم، فيقولون: ربنا أعطتينا ما لم تعط أحداً من العالمين، فيقول: لكم عندي ما هو أفضل من هذا، فيقولون: ربنا أي شيء أفضل من هذا. فيقول: رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبداً.- تنبيه - قوله في الحديث: " أتاهم الله في أدنى صورة رأوه فيها " الخ، هو من المتشابه يجري فيه مذهب السلف والخلف، فالسلف يقولون: يجب علينا أن نؤمن بها، ونعتقد أن لها معنى يليق بجلال الله تعالى، مع اعتقادنا أن الله تعالى ليس كمثله شيء، والخلف يؤولون الإتيان إما بالرؤية لأن العادة أن من غاب عن غيره لا يمكنه رؤيته، أو بإتيان ملك فيقول: أنا ربكم على سبيل الامتحان وهذا آخر امتحان المؤمنين، ومعنى الصورة الصفة، فمعنى " في أدنة صورة " الخ، في غير الصفة التي يعرفونه في الدنيا بها، وقولهم: " فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم "، أي فارقنا الناس من أجل توحيدك، حال كوننا مع المفارقة أفقر من أنفسنا عند صحبتهم، فهو اخبار منهم بمزيد صبرهم على المشاق لأجل الله، وقولهم " نعوذ بالله منك "، إنما استعاذوا منه لكونهم رأوا سمات المخلوق، وقوله: " فيكشف عن ساق "، معناه كشف الحزن وإزالة الرعب عنهم وما كان غلب على عقولهم من الأهوال، فتطمئن حنيئذ نفوسهم عند ذلك، ويتجلى لهم بالصفة التي يعرفونها فيخرون سجداً، وهذه الرؤية غير الرؤية التي هي في الجنة لكرامة أوليائه، وإنما هذه الرؤية امتحان لعباده، وقوله: " وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة "، معناه أنه تحجب عنهم بالصفة التي رأوه فيها أول مرة، وقوله: " ثم يضرب الجسر " معناه الصراط، وتحل الشفاعة بكسر الحاء وضمها معناه تقع ويؤذن فيها، وقوله: " دحض مزلقة " أي طريق تزلق فيه الأقدام ولا تثبت، وقوله: " فيه خطاطيف " جمع خطاف، وهو الذي يخطف الشيء، والكلاليب جمع كلوب وهو الحديدة التي يعلق بها اللحم والحسك الذي يقال له السعدان، ثبت له شوك عظيم من كل جانب، ومعنى " الخبر " اليقين، ومعنى " قبض قبضة " أي جمع جماعة، وقوله: " قد عادوا حمماً " أي صاروا فحماً، وقوله: " في أفواه الجنة " جمع فوهة وهي أول النهر، وقوله: " فيخرجون كاللؤلؤ " أي في الصفاء، وقوله: " في رقابهم الحواتيم "، قيل: معناه أنهم يعلقون أشياء من ذهب أو غير ذلك مما يعرفون بها، والله أعلم. قوله: ﴿ وَيُدْعَوْنَ ﴾ أي الكفار. قوله: (امتحاناً لإيمانهم) أي لا تكليفاً بالسجود، لأنها ليست دار تكليف. قوله: (طبقاً واحداً) أي عظماً واحداً.


الصفحة التالية
Icon