قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ ﴾ وقع خلاف طويل في أول ما نزل من القرآن والصحيح إن أول ما نزل على الإطلاق﴿ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ﴾[العلق: ١] إلى﴿ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾[العلق: ٥] وأول ما نزل بعد فترة الوحي ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ ﴾ إلى ﴿ فَٱهْجُرْ ﴾.
والحاصل:" أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعبد في غار حراء؛ فنزل جبريل بآية ﴿ ٱقْرَأْ ﴾ كما في حديث البخاري، فذهب بها يرجف فؤاده، فقال لخديجة: زملوني، فنزل عليه ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ * قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ ثم فتر الوحي، فحزن صلى الله عليه وسلم وجلع يعلو شواهق الجبال، ويريد أن يرمي بنفسه، فنودي وهو بغار حراء: يا محمد إنك رسول الله، قال: فنظرت عن يميني ويساري فلم أر شيئاً، فنظرت فوقي، فإذا به قاعد على عرش بين السماء والأرض، يعني الملك الذي ناداه، فرعبت ورجعت إلى خديجة فقلت: دثروني، دثروني، فنزل جبريل وقال: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ ﴾ "والتدثر لبس الدثار، وهو الثوب الذي فوق الشعار، ما يلي الجسد. قوله: (أدغمت التاء) أي بعد قلبها دالا وتسكينها. قوله: (أي المتلفف بثيابه) أي من الرعب الذي حصل له من رؤية الملك، وقيل: المتدثر بالنبوة والمعارف الإلهية. قوله: ﴿ قُمْ فَأَنذِرْ ﴾ إنما اقتصر على الإنذار، وإن كان معبوثاً بالتبشير أيضاً، لأنه في ذلك الوقت، لم يكن أحد يصلح للتبشير إلا ما قل جداً، فلما اتسع الإسلام نزل عليه﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾[الأحزاب: ٤٥].
قوله: ﴿ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾ أي خص ربك بالتكبير والتعظيم ظاهراً وباطناً، والفاء في هذا وما بعده، لإفادة معنى الشرط، كأنه قال: مهما يكن من شيء فكبر، والمعنى اعتقد أن ربك منزه عن كل نقص، متصف بكل كمال. قوله: ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ (عن النجاسة) أي لأن طهارة الثياب، شرط في صحة الصلاة، لا تصح إلا بها، وهي الأولى والأحب في غير الصلاة، لأن المؤمن طاهر طيب، لا يليق منه أن يحمل خبيثاً، ففي هذا رد على المشركين، فإنهم كانوا لا يصونون ثيابهم عن النجاسات، فأمره الله تعالى أن يخالفهم في ذلك. قوله: (قصرها) أي لأن تطويل الثياب شأنه أصابة النجاسة، فعبر بالملزوم عن اللاز، وتقصير الثياب مطلوب لما في الحديث:" إزار المؤمن إلى انصاف ساقيه، ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، وما كان على اسفل من ذلك ففي النار، فمن السفه أن يطيل الرجل ثيابه، ثم يتكلف رفعها بيديه "وود:" من جر إزاره خيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة " قال أبو بكر: يا رسول الله، إن أحد شقي إزاري يسترخي، إلا أني أتعهد ذلك منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لست ممن يصنعه خيلاء "فيؤخذ من ذلك، أن تطويل الثياب بقصد الخيلاء حرام، أما من غير قصد بل لمجرد عادة أهل بلده مثلاً، فهو مكروه إن كان يتحفظ من النجاسة، وما ذكره المفسر أحد أقوال في تفسير الآية، وقيل: المراد طهر نفسك من الصفات المذمومة، كالعجب والكبر والرياء ونحو ذلك، مأخوذ من قولهم: فلان طاهر الثياب والذيل، إذا أراد وصفه بالنقاء من ادناس الأخلاق، ومن ذلك قول عكرمة: لا تلبسها على معصية ولا على غدر، وقال الحسن: خلقك فحسن، وقال سعيد بن جبير: قلبك وبيتك فطهر، وقال مجاهد: عملك فأصلح، وقيل: المراد بالثياب الأهل، أي طهرهم عن الخطايا بالموعظة والتأديب، والعرب تسمي الأهل ثوباً ولباساً وازاراً، قال تعالى:﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ﴾[البقرة: ١٨٧] والآية صالحة لجميع تلك المعاني. قوله: ﴿ وَٱلرُّجْزَ ﴾ بضم الراء وكسرها سبعيتان، والزاي منقلبة عن السين ومعناهما واحد. قوله: (أي دم على هجره) دفع بذلك ما يقال: ظاهر الآية يقتضي أنه كان متلبساً بعبادة الأوثان وليس كذلك. قوله: ﴿ وَلاَ تَمْنُن ﴾ المن هنا الأنعام، والمعنى لا تعط شيئاً مستكثراً له، وقوله (حال) أي من فاعل ﴿ تَمْنُن ﴾.
قوله: (لا تعط شيئاً لتطلب أكثر منه) أي فالاستكثار هنا، عبارة عن طلب العوض، بأن يهب شيئاً، ويطمع أن يعوض من الموهوب له أكثر من الشيء الموهوب، وقيل: المعنى لا تعط شيئاً مستكثراً له، أي رائياً ما تعطيه كثيراً، بل عدة قليلاً لقوله تعالى:﴿ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾[النساء: ٧٧]وقال البوصيري: مستقل دنياك أن ينسب   الامساك منها إليه والإعطاءقوله: (أكثر منه) أي ولا مساوياً ولا أقل، فالمراد النهي عن طلب العوض مطلقاً، ليكون عطاؤه صلى الله عليه وسلم خالياً عن انتظار العوض، والتفات النفس إليه، وحكمة تخصيصه بذلك، أنه عليه السلام خليفة الله الأعظم في خلقه دنيا وأخرى، يقسم عليه من خزائن الله تعالى، فجميع ما بذله لعباده بالنسبة لما عند الله قليل، فلا يليق أن يراه كثيراً، ولا أني طلب عوضاً من الفقراء، وهو خليفة عن الغني المطلق فتدبر. قوله: (وهذا) أي النهي، وقوله: (خاص به) أي وأما أمته فليس حرام في حقهم.


الصفحة التالية
Icon