قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ الخ، شروع في بيان أحوال الأمة الماضية، وذكر منهم عاداً وثمود وفرعون، لأن أخبارهم كانت معلومة، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولكنه عام لكل أحد. قوله: ﴿ إِرَمَ ﴾ هو في الأصل اسم جد عاد، وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بنوح عليه السلام، سميت القبيلة باسم جدهم عاد، وعاش ألف سنة ومائتي سنة، ورزق من صلبه أربعة آلاف ولد، وتزوج ألف امرأة، ومات كافراً. قوله: (أي الطول) هذا أحد أقوال، وقيل: إن المراد به الأبنية المرتفعة على العمد، فكانوا ينصبون الأعمدة فيبنون عليها القصور، وقيل: ﴿ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ ﴾ ذات القوة والشدة، قال تعالى:﴿ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾[فصلت: ١٥] وقيل: غير ذلك. قوله: (كان طول الطويل) الخ، نحوه قول الكازروني: طول الطويل منهم خمسمائة ذراع، والقصير ثلاثمائة ذراع بذراع نفسه، ورد ذلك أن ابن العربي بقوله: هو باطل، لأن في الصحيح:" إن الله خلق آدم طوله ستون ذراعاً في الهواء فلم يزل الخلق ينقصون إلى الآن "اهـ. وقال قتادة: إن طول الرجل منهم اثنا عشر ذراعاً. قوله: ﴿ ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ ﴾ أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والقوة، وهم الذين قالوا: من أشد منا قوة؟ وقيل: هي مدينة بناها شداد بن عاد، وحاصل قصتها: أنه كان لعاد ابنان شداد وشديد، فملكا بعده وقهرا العباد والبلاد، فمات شديد وخلص الملك لشداد، فملك الدنيا ودانت له ملوكها، وكان يحب قراءة الكتب القديمة، فسمع بذكر الجنة وصفتها، ودعته نفسه إلى بناء مثلها عتواً على الله وتجبراً، فروى وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة، أنه خرج في طلب إبل له شردت، فبينما هو يسير في صحارى عدن، إذ وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن، وحول الحصن قصور كثيرة، فلما دنا منها ظن أن فيها أحداً يسأله عن إبله، فلم ير خارجاً ولا داخلاً، فنزل عن دابته وعقلها، وسل سيفه ودخل من باب المدينة، فإذا هو ببابين عظيمين وهما مرصعان بالياقوت الأحمر، فلما رأى ذلك دهش، ففتح الباب ودخل، فإذا هو بمدينة لم ير أحداً مثلها، فإذا فيها قصور، في كل قصر منها غرف، وفوق الغرف غرف مبنية بالذهب والفضة وأحجار اللؤلؤ والياقوت وإذا أبواب تلك القصور مثل مصاريع باب المدينة، يقابل بعضها بعضاً، وهي مفروشة كلها باللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران، فلما عاين ذلك ولم ير أحداً هاله ذلك، ثم نظر إلى الأزفة، فإذا في تلك الأزفة أشجار مثمرة، وتحت تلك الأشجار أنهار يجري ماؤها في قنوات من فضة، فقال الرجل في نفسه: هذه الجنة، وحمل معه من لؤلؤها ومن بنادق مسكها وزعفرانها، ورجع إلى اليمن وأظهر ما كان معه وحدث بما رأى، فبلغ ذلك معاوية فأرسل إليهم فقدم عليه، فسأله عن ذلك فقص عليه ما رأى فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار، فلما أتاه قال: يا أبا إسحاق هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة؟ قال: نعم، هي إرم ذات العماد، بناها شداد بن عاد، قال: فحدثني حديثها، فقال: لما أراد شداد بن عاد عملها، أقر عليها مائة قهرمان، مع كل قهرمان ألف من الأعوان، وكتب إلى ملوك الأرض أن يمدوهم بما في بلادهم من الجواهر، فخرجت القهارمة يسيرون في الأرض ليجدوا أرضاً موافقة، فوقفوا على صحراء نقية من التلال، وإذا فيها عيون ماء ومروج فقالوا: هذه الأرض التي أمر الملك أن نبني فيها، فوضعوا أساسها من الجزع اليماني، وأقاموا في بنائها ثلاثمائة سنة، وكان عمر شداد تسعمائة سنة، فلما أتوه وقد فرغوا منها قال: انطلقوا فاجعلوا حصنا يعين سوراً، واجعلوا حوله ألف قصر، وعند كل قصر ألف علم، ليكون في كل قصر وزير من وزرائي، ففعلوا؛ وأمر الملك وزارءه وهو ألف وزير، أن يتهيؤا للنقلة إلى إرم ذات العماد، وكان الملك وأهله في جهازهم عشر سنين، ثم ساروا إليها، فلما كانوا من المدينة على مسيرة يوم وليلة، بعث الله عليه وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعاً، ولم يبق منهم أحد. ثم قال كعب: وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك، أحمر أشقر قصير على حاجبيه خال، وعلى عنقه خال، يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر عبد الله بن قلابة، فقال: هذا والله ذاك الرجل، وهذه المدينة تزعم العامة أنها دائرة في الدنيا، وهو من الخرافات، بل هي في مكانها، غير أن الله تعالى يعمي الخلق عنها، فلم يهد لها إلا من وعده بها. قوله: (في بطشهم) متعلق بمثلها، والضمير عائد على القبيلة باعتبار أهلها. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ ﴾ صفة لثمود، والباء في بالوادي بمعنى في و ﴿ ثَمُودَ ﴾ عطف على ﴿ عَادٍ ﴾ وهي قبيلة مشهورة. قوله: (واتخذوها بيوتاً) قيل: أول من نحت من الجبال والصخور والرخام ثمود، وروي أنهم بنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة، وقيل: سبعة آلاف كلها من الحجارة. قوله: (وادي القرى) موضع بقرب المدينة من جهة الشام. قوله: (كان يتد أربعة أوتاد) الخ، أي يدقها للمعذب، ويشهد بها مطروحاً على الأرض، ثم يعذبه بما يريد من ضرب وإحراق وغيرهما. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ ﴾ إما مجرور صفة للمذكورين، أو منصوب أو مرفوع على الذم. قوله: (نوع) ﴿ عَذَابٍ ﴾ فسره بذلك لقول الفراء: سوط العذاب كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب. والمعنى: أنزل على كل نوعاً من العذاب، فأهلكت عاد بالربح، وثمود بالصيحة، وفرعون بالغرق. قوله: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ ﴾ تعليل لما قبله، إعلاماً بأن كفار قومه عليه السلام سيصيبهم مثل ما أصاب المذكورين من العذاب. قوله: (يرصد أعمال العباد) أشار بذلك إلى أن في الكلام استعارة تمثيلية، شبه حفظة تعالى لأعمال عباده ومجازاته عليها، بحال من قعد على الطريق مترصداً لمن يسلكها ليأخذه فوقع به ما يريد، واستعير اسم المشبه به للمشبه.