قوله: ﴿ مِنْ ﴾ (للبيان) أي فالذين كفروا هم أهل الكتاب والمشركون، إن قلت: إن أهل الكتاب لم يكونوا جميعاً كفاراً قبل النبي، بل بعضهم كان متمسكاً بنبيهم وكتابهم، والبعض كفار كمن غير وبدل، ومقتضى المفسر أن جميعهم كفار وليس كذلك، فالأحسن جعل ﴿ مِنْ ﴾ للتبعيض، والواو في ﴿ وَٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ للمعية، و ﴿ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ مفعول معه، والعامل فيه ﴿ يَكُنِ ﴾.
قوله: ﴿ مُنفَكِّينَ ﴾ اسم فاعل من انفك الذي يعمل عمل كان، واسمها ضمير مستكن فيها والخبر محذوف قدره المفسر بقوله: (عما هم عليه) ويصح أن تكون تامة، فلا تحتاج لتقدير خبر. قوله: (خبر يكن) أي واسمها الموصول فهي ناقصة، وقوله: ﴿ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾ حال من فاعل ﴿ كَفَرُواْ ﴾ والمعنى: أن أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، والمشركين وهم عبدة الأوثان من العرب، كانوا يقولون قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم: لا ننفك عما نحن فيه من ديننا، حتى يبعث النبي صلى الله عليه وسلم هو في التوراة والإنجيل، فلما بعث تفرقوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفره، فحكى الله تعالى ما كانوا يقولون أولاً، وما فعلوه آخراً. قوله: (أي زائلين) الخ، أشار بذلك إلى أن الانفكاك بمعنى الزوال، والمعنى: أنهم متعلقون بدينهم، لا يتركونه لا عند مجيء محمد صلى الله عليه سلم. قوله: ﴿ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ ﴾ غاية لعدم انفكاكهم عما هم عليه، والحاصل أن في الآية تفسيرين الأول: حمل ما كانوا عليه قبل مجيء النبي على شرعهم في حق أهل الكتاب، وعلى عبادة الأصنام في حق المشركين، فالمعنى: لم يكن الفريقان منفكين عما كانوا عليه، لم يفارقوه إلا وقت مجيء محمد، فلما ظهر محمد تفرقوا، فمنهم من آمن به، ومنهم من بقي على ما كان عليه، وهذا المعنى ليس فيه مدح ولا ذم لهم. الثاني أن المراد بما كانوا عليه، هو إيمانهم بمحمد إذا ظهر، المعنى: لم يكونوا منفكين عن العزم على الإيمان بمحمد إذا ظهر، أي لم يفارقوه ولم يتركوه إلا بعد مجيئه صلى الله عليه وسلم، وفي هذا المعنى توبيخ لهم، إذ كيف يؤمنون في الغيب قبل مجيئه، ويكفرون به لما جاء، ورأوا أنواره ومعجزاته؟ إذا علمت ذلك، تعلم أن كلام المفسر أولاً محتمل للمعنيين، وآخراً معرج على المعنى الثاني. قوله: (بدل من البيئة) أي بدل اشتمال، و ﴿ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ متعلق بمحذوف صفة لرسول أو حال من ﴿ صُحُفاً ﴾ لكونه نعت نكرة قدم عليها. قوله: (وهو النبي محمد) وقيل جبريل قوله: ﴿ مُّطَهَّرَةً ﴾ أي مطهراً ما فيها وهو القرآن. قوله: (من الباطل) أي فتطهير الصحف كناية عن كونها لا يأتيها الباطل أصلاً. قوله: ﴿ فِيهَا كُتُبٌ ﴾ مكتوبات في قراطيس، فالقرآن يجمع ثمرة كتب الله تعالى المقدمة عليه، والرسول وإن كان أمياً، لكنه لما تلا مثل ما في الصحف كان التالي لها، فصحت نسبة تلاوة الصحف إليه، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، قوله: (أي تلو مضمون ذلك) أي مضمون المكتوب في الصحف وهو القرآن لا نفس المكتوب، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن عن ظهر قلب، ولم يكن يقرؤه من كتاب، فتحصل أن المراد بالصحف والقراطيس التي يكتب فيها القرآن، والمراد بالكتب الأحكام المكتوبة فيها التي هي مدلول القرآن المكتوب لفظه ونقشه. قوله: (فمنهم من آمن) مفرع على محذوف، والتقدير: فلما أتتهم البينة فمنهم الخ.