قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والرؤية علمية لا بصرية، لأنه لم يكن وقت الواقعة موجوداً. قوله: (استفهام تعجيب) أي وتقرير، والمعنى: اقرأ بأنك علمت قصة الفيل، وحذفت الألف من ﴿ تَرَ ﴾ للجازم. قوله: ﴿ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ ﴾ ﴿ كَيْفَ ﴾ معلقة للرؤية، منصوبة على المصدرية بالفعل بعدها، و ﴿ رَبُّكَ ﴾ فاعل، والتقدير: أي فعل فعله، والجملة سدت مسد مفعولي ﴿ تَرَ ﴾ ولا يصح نصبها على الحال من الفاعل، لأنه يلزم وصفه تعالى بالكيفية وهو غير جائز. قوله: (هو محمود) أي وهو الذي برك وضربوه في رأسه، وكان معه أثنا عشر فيلاً، وقيل ثمانية عشر، وقيل ألف، وأفرد الفيل إما موافقة لرؤوس الآي، أو لكونه نسبهم إلى الفيل الأعظم الذي يقال له (محمود). قوله: (أبرهة) بفتح الهمزة وسكون الموحدة وفتح الراء، واسمه الأشرم، سمي بذلك لأن أباه ضربه بحربة فشرم أنفه وجبينه، وكان نصرانياً. قوله: (ملك اليمن) بدل من (أبرهة) وكان من قبل النجاشي ملك الحبشة، وكان جيش أبرهة ستين ألفاً. وقوله: (وجيشه) معطوف على (أبرهة). قوله: (بنى بصنعاء كنيسة) الخ، شروع في بيان قصة أصحاب الفيل. وحاصل تفصيلها على ما ذكره محمد بن إسحاق، عن سعيد بن جبير وعكرمة، عن ابن عباس: أن النجاشي ملك الحبشة وهو أصحمة، جد النجاشي الذي آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، كان بعث أبرهة أميراً على اليمن فأقام به، واستقامت له الكلمة هناك، ثم إنه رأى الناس يتجهزون أيام الموسم، إلى مكة لحج بيت الله عز وجل، فحسد العرب على ذلك، ثم بنى كنيسة بصنعاء وكتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يبن لملك مثلها، ولست منتهياً حتى أصرف إليها حج العرب، فسمع به مالك بن كنانة، فخرج لها ليلاً فدخل إليها فقعد فيها ولطخ بالعذرة قبتها، فبلغ ذلك أبرهة فقال: من اجترأ علي؟ فقيل له: صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت قد سمع بالذي قلت، فحلف أبرهة عند ذلك، ليسيرن إلى الكعبة ثم يهدمها، فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك، وسأله أن يبعث إليه بفيله، وكان فيلاً يقا له محمود، وكان فيلاً لم ير مثله عظماً وجسماً وقوة، فبعث به إليه، فخرج أبرهة من الحبشة سائراً إلى مكة، وخرج معه بالفيل، فسمعت العرب بذلك، فعظموه ورأوا جهاده حقاً عليهم، فخرج ملك من ملوك اليمن يقال له ذو نفر بمن أطاعه من قومه، فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ ذا نفر فقال لأبرهة: يا أيها الملك استبقني فإن بقائي خير لك من قتلي، فاستحياه وأوثقه، وكان أبرهة، رجلاً حليماً، ثم سار حتى إذا دنا من بلاد خثعم، وخرج إليه نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم ومن اجتمع من قبائل اليمن، فهزمهم وأخذ نفيلاً فقال نفيل: أيها الملك إني دليل بأرض العرب، فاستبقاه وخرج معه يدله، إذ مر بالطائف خرج إليه مسعود بن مغيث في رجل من ثقيف فقال: أيها الملك نحن عبيدك ليس عندنا خلاف لك، إنما تريد البيت الذي بمكة نحن نبعث معك من يدلك عليه، فعبثوا معه أبا رغال مولى لهم، فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال، وهو الذي يرجم قبره الآن، وبعث أبرهة رجلاً من الحبشة يقال له الأسود بن مسعود مقدمة خيله، وأمره بالغارة على نعم الناس، فجمع الأسود إليه أموال أصحاب الحرم، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير، ثم إن أبرهة أرسل حناطة الحميري إلى أهل مكة، وقال: له سل عن شريفها ثم أبلغه ما أرسلك به إليه، أخبره أني لم آت لقتال، إنما جئت لأهدم هذا البيت، فانطلق حتى دخل مكة، فلقي عبد المطلب فقال له: إن الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأتل لقتال إلا أن تقاتلوه، وإنما جاء لهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم، فقال عبد المطلب: ما له عندنا قتال، ولا لنا يدان ندفعه عما جاء له، فإن هذا بيت الله الحرام وبيت إبراهيم خليله عليه السلام، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يحل بينه وبين ذلك، فوالله ما لنا ندفعه قوة، قال: فانطلق معي إليه، فزعم بعض العلماء أنه أردفه على بلغة كان عليها، وركب معه بعض بنيه حتى قدم العسكر، وكان ذو نفر صديقاً لعبد المطلب فقال: يا ذا نفر هل عندك من غناء أي نفع فيما نزل بنا؟ قال: أنا رجل أسير، لا آمن أن أقتل بكرة أو عيشة، ولكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل فإنه لي صديق، فأسأله أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير، ويعظم حظوتك ومنزلتك عنده، قال: فأرسل إلى أنيس فأتاه فقال: إن هذا سيد قريش وصاحب عير مكة، يطعم الناس في السهل، والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب الملك له مائتي بعير، فإن استطعت أن تنفعه عنده فانفعه، فإنه صديق لي أحب ما وصل إليه من الخير، فدخل أنيس على أبرهة فقال: أيها الملك هذا سيد قريش وصاحب عير مكة، الذي يطعم الناس في السهل، والوحوش في رؤوس الجبال، يستأذن عليك، وأنا أحب أن تأذن لي فيكلمك؛ فقد جاء غير ناصب لك ولا مخالف عليك، فأذن له، وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً وسيماً، فلما رآه أبرهة عظمه وأكرمه عن أن يجلس تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سريره، فجلس على بساطه، وأجلس عبد المطلب بجنبه، ثم قال لترجمانه: قل له ما حاجتك إلى الملك؟ فقال له الترجمان ذلك، فقال عبد المطلب حاجتي إلى الملك أن يرد ليّ مائتي بعير أصابها، فقال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت الآن فيك، قال: لم؟ قال: جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك، وهو شرفكم وعصمتكم لأهدمه، لم تكلمني فيه، وتكلمني في ما ئتي بعير غصبتها لك، قال عبد المطلب: أنا رب هذه الإبل، ولهذا البيت رب سيمنعه منك، قال: ما كان ليمنعه مني، قال: فأنت وذاك، فأمر بإبله فردت عليه، فلما ردت الإبل على عبد المطلب خرج، فأخبر قريشاً الخبر، وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب، ويتحرزوا في رؤوس الجبال خوفاً عليهم من معرة الجيش ففعلوا، وأتى عبد المطلب وأخذ حلقة الباب وجعل يدعو، فلما فرغ من دعائه، توجه في بعض تلك الوجوه مع قومه، وأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول، وهيأ جيشه وهيأ فيله، وكان فيلاً لم ير مثله في العظم والقوة، ويقال: كانت الأفيال اثني عشر فيلاً، فأقبل نفيل إلى الفيل الأعظم ثم أخذ بأذنه وقال له: ابرك محموداً، وارجع رشيداً، فإنك ببلد الله الحرام فبرك، فبعثوه فأبى، فضربوه بالمعول في رأسه، فادخل محاجنه تحت مراقه ومرافقه ففزعوه ليقوم فأبى، فوجهوه راجعاً إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى قدامه ففعل مثل ذلك، ووجوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، فصرفوه إلى الحرم فبرك وأبى أن يقوم، وخرج نفيل يشتد حتى صعد الجبل، وأرسل الله عز وجل طيراً من البحر أمثال الخطاطيف، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار، حجران في رجليه وحجر في منقاره، أكبر من العدسة وأقل من الحمصة، فلما غشيت القوم أرسلتها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحداً إلا هلك، وخرجوا هاربين لا يهتدون إلى الطريق الذي جاؤوا منه، وصرخ القوم، وماج بعضهم في بعض يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل منهل، وبعث الله على أبرهة داء في جسده، فجعل تتساقط أنامله، كلما سقطت أنملة أتبعها مدة من قيح ودم، فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطير، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم هلك، وانفلت وزير أبرهة أبو يكسوم، وطائره فوق رأسه، حتى وقف بين يدي النجاشي، فلما أخبره الخبر سقط عليه الحجر فمات بين يديه، وأما محمود فيل النجاشي فربض ولم يشجع على الحرم فنجا، وأما الفيلة الأخر فشجعوا فرموا بالحصباء. قوله: (كنيسة) أي وكان قد بناها بالرخام الأبيض والأحمر والأسود والأصفر، وحلاها بالذهب والفضة وأنواع الجواهر، وأذل أهل اليمن في بنائها، ونقل فيها الرخام المجزع، والحجارة المنقوشة بالذهب والفضة من قصر بلقيس، وكان على فرسخ من موضعها، ونصب فيها صلباناً من ذهب وفضة، ومنابر من عاج وآبنوس وغير ذلك، وكان بناؤها مرتفعاً عالياً، تسقط قلنسوة الناظر عن رأسه عند نظره إليها. قوله: (ليصرف إليها الحجاج) أي وقد صرفهم بالفعل، وأمرهم بحجها فحجوها سنين، وكانوا يحجون البيت في هذه المدة أيضاً، كذا قيل: قوله: (فأحدث رجل) أي من العرب وهو مالك بن كنانة. قوله: (أرسل الله عليهم) الخ، أي فرجعوا هاربين يتساقطون بكل طريق، وكان هلاكهم قرب عرفة، قبل دخول أرض الحرم على الصحيح، وقيل: بوادي محسر بين مزدلفة ومنى، وأصيب أبرهة في جسده بداء الجدري، ، فتساقطت أنامله وأصابعه وأعضاؤه، وسال منه الصديد والقيح والدم، وما مات حتى انشق قلبه. قوله: ﴿ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ ﴾ أي مكرهم، وسماه كيداً لأن سببه حسد سكان الحرم، وقصد صرف شرفهم له وهو خفي، فسمي كيداً لذلك. قوله: (أي جعل) أشار بذلك إلى أن المضارع لحكاية الحال الماضية. قوله: ﴿ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ ﴾ عطف على قوله: ﴿ يَجْعَلْ ﴾ والاستفهام مسلط عليه، فالمعنى قد جعل وأرسل. قوله: ﴿ طَيْراً ﴾ الطير اسم جنس يذكر يؤنث. قوله: ﴿ أَبَابِيلَ ﴾ أي وكانت من جهة السماء، ولم ير قبلها ولا بعدها مثلها، ورد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إنها طير بين السماء والأرض تعشش وتفرخ ". قال ابن عباس: كان لهم خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب. وقال عكرمة: كانت طيراً خضراً خرجت من البحر، لها رؤوس كرؤوس السباع، ولم تر قبل ذلك ولا بعده. وقالت: إنها أشبه شيء بالخطاطيف، وقيل: بل كانت أشياء الوطاويط حمراً وسوداً. قوله: (جماعات جماعات) أي بعضها إثر بعض. قوله: (قيل لا واحد له) أي من لفظه، يكون اسم جمع. قوله: (أبول) بكسر الهمزة وفتح الموحدة المشددة وسكون الواو كسنور. قوله: (طين مطبوخ) أي محرق كالآجر، وكان طبخه بنار جهنم، وهي من الحجارة التي أرسلت على قوم لوط، وناسب إهلاكهم بالحجارة، لأنهم أرادوا هدم الكعبة. قال ابن عباس: كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده، وكان ذلك أول الجدري، ولم يكن موجوداً قبل ذلك اليوم، وعنه أيضاً: أنه رأى من تلك الحجارة عند أم هانئ نحو قفيز مخططة بحمرة كالجزع الظفاري. قوله: ﴿ كَعَصْفٍ ﴾ واحده عصفة وعصافة وعصيفة. قوله: (وداسته) صوابه وراثته أي ألقته روثاً ثم يبس وتفتت، ولم يقل فجعلهم كروث استهجاناً للفظ الروث. قوله: (مكتوب عليه اسمه) أي وإدراك الطائر أن هذا لفلان بخصوصه، إما بمجرد إلهام أو بمعرفته ذلك من الكتابة، والله أعلم بحقيقة الحال. قوله: (يخرق البيضة) أي التي فوق رأس الرجل من حديد، وقوله: (والرجل) أي فيدخل من دماغه ويخرج من دبره، وقوله: (والفيل) أي الذي هو راكبه، وجميع الفيلة قد هلكت إلا كبيرها وهو محمود، فإنه نجا لما وقع منه الفعل الجميل الذي لم يقع مثله من العقلاء، ولذا قال البوصيري: كم رأينا ما ليس يعقل قد ألـ   ـهـم ما ليس يلهم العقلاءإذا أبى الفيل ما أتى صاحب الفيـ   ـل ولم ينفع الحجا والذكاءقوله: (عام مولد النبي صلى الله عليه وسلم) أي قبل مولده بخمسين يوماً على الصحيح، وذلك ببركة النور المحمدي. إن قلت: إنه انتقل من عبد المطلب بل ومن عبد الله إلى أمه آمنة. أجيب بأنه وإن انتقل من جده وأبيه، إلا أن يتركه حاصلة وباقية في محله، كوعاء المسك إ ذا فرغ منه فإن رائحته تبقى، وقيل: كان عام الفيل قبل ولادته صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة، وقيل: بثلاث وعشرين، وقيل: غير ذلك.


الصفحة التالية
Icon