قوله: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ ﴾ كلام مستأنف مسوق لبيان تحريض المؤمنين على الوفاء بالعقود، فإن المقصود من ذكر الأمم السابقة، ونقضهم عهود أنبيائهم، تذكير هذه الأمة بأن الوفاء بالعهود أمره عظيم وأجره جسيم، ونقضه فيه الوبال الكبير، ولذا قال العارف أبو الحسن الشاذلي: فالويل لمن لم يعرفك، بل الويل ثم الويل لمن أقر بوحدانيتك ولم يرض بأحكامك. قوله: (بما يذكر بعد) أي من قوله: ﴿ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ ﴾ الخ، فعهد الله هو امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، والدال على ذلك تجب مطاوعته، فالشيخ المتمسك بشرع رسول الله، القائم بحقوق الله وحقوق عباده، إذا أخذ العهد بذلك على إنسان، وجب عليه اتباعه ونقض عهده، إما كفر إذا قصد نقض ما هو عليه من التوحيد وغيره، أو ضلال مبين إذا قصد عدم الالتزام بأوراده، وأما من خالف الشرع، واتبع هوى نفسه، فالواجب نقض عهده، لأن من لا عهد له مع الله، لا عهد له مع خلقه، قال تعالى:﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ ﴾[البقرة: ٢٥٦] هكذا ينبغي. قوله: (فيه التفات عن الغيبة) أي وكان مقتضى الظاهر وبعث، وإنما التفت اعتناء بشأن البعث قوله: (أقمنا) أشار بذلك إلى أن المراد بالبعث الجعل والإقامة، لا الإرسال، إلا لكانوا معصومين من النقض. قوله: ﴿ مِنهُمُ ﴾ إما متعلق ببعثنا، أي بمحذوف حال من اثني عشر، وقوله: ﴿ نَقِيباً ﴾ تمييزه، والنقيب فعيل، إما بمعنى فاعل لأنه يفتش على أحوال القوم، أو بمعنى مفعول لأنهم فتشوا عليه، واختاروه نقيباً عليهم مشتق من التنقيب وهو التفتيش، ومنه فنقبوا في البلاد، سمي بذلك لأنه يفتش عن أحوال القوم ويسعى في مصالحهم. قوله: (من كل سبط نقيب) أي فالنقباء على عدد الأسباط، وهم أولاد يعقوب، وكانوا اثني عشر كل واحد منهم سبط. قوله: (توثيقة عليهم) أي تأكيداً عليهم. قوله: ﴿ وَقَالَ ﴾ (لهم) أي للنقباء، وعهد النقباء هو عهد بني إسرائيل، أو الضمير عائد على بني إسرائيل عموماً، وسبب ذلك أن بني إسرائيل لما رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون، أمرهم الله تعالى بالسير إلى أريحا بأرض الشام، وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون، وقال لهم: إني كتبتها لكم داراً وقراراً، فأخرجوا من فيها وإني ناصركم، وأمر موسى أن يأخذ من كل سبط نقيباً أميناً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أمروا به، فاختار النقباء، وأخذ الميثاق على بني إسرائيل وسار بهم، فلما دنا من أرض كنعان، بعث النقباء إليهم يتجسسون أحوالهم، فرأوا خلقاً أجسامهم عظيمة، ولهم قوة وشوكة فهابوهم فرجعوا، وكان موسى قد نهاهم أن يتحدثوا بما يرون من أحوال الكنعانيين، فنكثوا الميثاق وتحدثوا، إلا اثنين منهم، قيل لما توجه النقباء لتجسس أحوال الحبارين، لقيهم عوج بن عنق، وعنق أمه إحدى بنات آدم لصلبه، وكان عمره ثلاثة آلاف سنة، وطوله ثلاثة آلاف وثلثمائة وثلاثين ذراعاً، وكان على رأسه حزمة حطب، فأخذ النقباء وجعلهم في الحزمة، وانطلق بهم إلى امرأته، فطرحهم على يديها، وقال اطحنيهم بالرحى، فقالت لا بل نتركهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا، فجعلوا يتعرفون أحوالهم، وكان من أحوالهم أن عنقود العنب عندهم لا يحمله إلا خمسة رجال منهم، وأن قشرة الرمانة تسع خمسة منهم، فلما خرج النقباء من أرضهم، قال بعضهم لبعض: إن أخبرتم بني إسرائيل بخبر القوم، ارتدوا عن نبي الله، ولكن اكتموه إلا عن موسى وهارون، ثم انصرفوا إلى موسى، وكان معهم حبة من عنبهم، فنكثوا عهدهم، وجعل كل واحد منهم ينهي سبطه عن القتال ويخبره بما رأى، إلا كالب ويوشع، وكان عسكر موسى فرسخاً في فرسخ، فجاء عوج بن عنق حتى نظر إليهم، فجاء إلى جبل وأخذ منه صخرة على قدر عسكر موسى، ثم حملها على رأسه ليطبقها عليهم، فبعث الله الهدهد فنقر وسط الصخرة المحاذي لرأسه، فوقعت في عنقه وطوقته فصرعته، وأقبل موسى فقتله، فأقبلت جماعة حتى حزوا رأسه، وهذه القصة ذكرها كثير من المفسرين، قال المحققون: إنه لا عوج ولا عنق، وإنما الصحيح من القصة وجود الجبارين وقريتهم، وأنهم عظام الأجسام، وبالجملة فالصحيح هو ما قصه الله علينا فيما يأتي في هذا الربع. قوله: (لام قسم) أي والله، وجوابه هو قول لأكفرن، وحذف جواب الشرط لتأخره عن القسم اكتفاء بجواب القسم، قال ابن مالك: واحذف لدى اجتماع شرط وقسم، جواب ما أخرت. قوله: ﴿ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي ﴾ أخره عن الصلاة والزكاة، مع أنهما من الفروع، لأن بعضهم كان يفعلهما مع كونه يكذب ببعض الرسل، فأفاد الله تعالى أن عدم الإيمان لا ينفع مع فعل الطاعات قوله: ﴿ وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ﴾ من التعزيز، يطلق على التعذيب، وعلى التعظيم والتوفير والنصرة، وهو المراد هنا. قوله: (بالإنفاق في سبيله)، أي واجباً أو مندوباً، وهو أعم من الزكاة. قوله: (فنقضوا الميثاق) أي بتكذيبهم الرسل، وقتلهم الأنبياء، وتضييعهم الفرائض.


الصفحة التالية
Icon