قوله: ﴿ يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ ﴾ سبب نزولها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث ضاق ذرعاً لعلمه أن قوماً يكذبونه ولا بد، فنزلت الآية تسلية له، وفي ندائه بيا أيها الرسول شهادة له بالرسالة، وأل في الرسول للعهد الحضوري، أي الرسول الحاضر وقت نزولها، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: (جميع) قدره إشارة إلى أن ما اسم موصول بمعنى الذي، ولا يصح تقديره نكرة، لأنه يصدق بتبلي البعض مع أنه غير مكلف، واعلم أن ما أوحي إلى رسول الله، ينقسم إلى ثلاثة أقسام: ما أمر بتبليغه وهو القرآن والأحكام المتعلقة بالخلق عموماً فقد بلغه ولم يزد عليه حرفاً ولم يكتم منه حرفاً ولو جاز عليه الكتم لكتم آيات العتاب الصادرة له من الله، كآية عبس وتولى، وآية ما كان لنبي أن يكون له أسرى، وسورة تبت يدا أبي لهب، ولفظ قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، وقد شهد الله له بتمام التبليغ، حيث أنزل قبيل وفاته﴿ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾[المائدة: ٣] وورد أنه قال لعزرائيل حيث قبض روحه: اقبض فقد بلغت، وما أمر بكتمه فقد كتمه ولم يبلغ منه حرفاً، وهو جميع الأسرار التي لا تليق بالأمة، وما غير في تبليغه وكتمه، فقد كتم البعض وكتم وبلغ البعض، وهو الأسرار التي تليق بالأمة، ولذا ورد عن أبي هريرة أنه قال: أعطاني حبيبي جرابين من العلم، لو بثثت لكم أحدهما لقطع مني هذا الحلقوم. قوله: (خوفاً أن تنال بمكروه) أي يمنعك عن مطلوبك، كالقتل والأسر ومنع الخلق عنك فإنك معصوم من ذلك، وأنا مثل السب فتحمله، ولا يكن مانعاً لك من التبليغ، وهذا إخبار من الله بأن رسوله لم يكتم شيئاً، فهو معصوم من الكتمان لاستحالته عليه. قوله: (بالإفراد والجمع) أي فهما قراءتان سبعيتان، وعلى كل فهو مفعول لبلغت، فعلى الإفراد منصوب بالفتحة الظاهرة، وعلى الجمع منصوب بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم، والمعنى واحد على كل، لأن المفرد المضاف يفيد العموم. قوله: (لأن كتمان بعضها الخ) أشار بذلك إلى دفع سؤال ورد على الآية. وحاصله أن ظاهر قوله: ﴿ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ اتحاد الشرط، والجواب لأنه ينحل المعنى إن لم تبلغ فما بلغت. وحاصل الجواب أن المعنى وإن تركت شيئاً مما أمرت تبليغه ولو حرفاً، فقد تركت الكل وصار ما بلغته غير معتد به، لأن كتمان بعضه ككتمان كله. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ ﴾ أي يحفظك وهو من تمام الأمر بالتبليغ. قوله: (أن يقتلوك) دفع ما قيل إنه أوذي أشد الإيذاء قولاً فأجاب بأن المراد العصمة من القتل، وما في معناه من كل ما يعطل عليه التبليغ وهكذا كل نبي أمر بالقتال، وما ورد من قتل بعض الأنبياء، فلم يكونوا مأمورين بالقتال. قوله: (وكان صلى الله عليه وسلم يحرس الخ)" عن عائشة رضي الله عنها قالت: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقدمة المدينة ليلة فقال: " ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة "، قال فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح، قال من هذا؟ قال سعد بن أبي وقاص، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما جاء بك؟ فقال وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله ثم نام، وفي رواية إن الذي جاء سعد وحذيفة بن اليمان قالا: جئنا نحرسك، فنام عليه السلام حتى سمعت غطيطه "، ونزلت هذه الآية فأخرج رأسه من قبة آدم وقال: انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله، ورد أنه كان يحفظه سبعون ألف ملك، لا يفارقونه في نوم ولا يقظة. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ أي لبلوغ مطلوبهم فيك لعصمتك منهم، ولذلك في بعض الغزوات حين احتاطت به الأعداء صار يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، ويرميهم بالتراب في وجوههم، وكان يمر بين صفي القتال على بغلة لا تصلح لكر ولا فر. قوله: ﴿ قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ ﴾ أي اليهود والنصارى. قوله: (معتد به) أي عند الله وهو الهدى والخير، وهذا جواب عن سؤال: كيف يقول لستم على شيء، مع أنهم على شيء وهو الدين الباطل. قوله: ﴿ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ ﴾ أي تأتمرون بأمرهما وتنتهون بنهيهما، لأن فيهما بيان أن دينه هو الدين القيم، وأن وجوده ناسخ لجميع الشرائع. قوله: ﴿ كَثِيراً مِّنْهُمْ ﴾ أي كعلمائهم ورؤسائهم، وأما القليل منهم كعبد الله بن سلام والنجاشي وأضرابهما، فقد زادهم القرآن اهتداء ونوراً. قوله: و ﴿ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾ نسب الإنزال أولاً إليهم، لأنهم مأمورون بإتباعه، ونسب الإنزال ثانياً إليه، لأنه منزّل إليه حقيقة، فيصح نسبة الإنزال إليهم باعتبار أنهم مأمورون بالعمل به وإليه باعتبار أنه يبلغه. قوله: ﴿ طُغْيَاناً وَكُفْراً ﴾ قيل الطغيان والكفر مترادفان، وقيل الطغيان أعم لأنه مجاوزة الحد. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ إن حرف توكيد ونصب، والذين اسمها، وآمنوا صلته، وخبرها محذوف دل عليه قوله: ﴿ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ الخ، وقوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ ﴾ الواو للاستئناف أو عطف جمل، والذين مبتدأ ﴿ وَٱلصَّابِئُونَ وَٱلنَّصَارَىٰ ﴾ معطوفان عليه، وقوله: ﴿ مَنْ آمَنَ ﴾ بدل من الذين هادوا، وما عطف عليه بدل بعض من كل، وقوله: ﴿ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ خبر المبتدأ، وهذا أحد أوجه تسعة وهو أحسنها، ولذا درج عليه المفسر. قوله: ﴿ آمَنُواْ ﴾ أي حقيقة بقلوبهم وألسنتهم خرج المنافقون. قوله: (فرقة منهم) أي اليهود، وقيل من النصارى، وقيل طائفة يعبدون الكواكب السبعة، وقيل يعبدون الملائكة. قوله: (وعمل صالحاً) أي فإن مات ولم يكن عمل صالحاً غير الإيمان فهو تحت المشيئة. قوله: (منهم) قدره إشارة إلى أن العائد محذوف.