قوله: ﴿ وَحَسِبُوۤاْ ﴾ سبب هذا الحسبان، أنهم كانوا يعتقدون أنهم يقربون لكونهم من ذرية الأنبياء، فلا يضرهم تكذيب الأنبياء وقتلهم إياهم، بل سلفهم يدفعون عنهم عذاب الآخرة. قوله: (بالرفع فأن مخففة) أي واسمها محذوف تقديره أنه، وقوله: ﴿ أَلاَّ تَكُونَ ﴾ خبرها، قال ابن مالك: وَإنْ تُخفّف أَنْ فَاسْمَهَا اسْتَكَن وَالخَبَر اجْعَلِ جُمْلَةً مِنْ بَعْدَ أَنْقوله: (والنصب) أي فهما قراءتان سبعيتان. واعلم أن أن إن وقعت بعد ما يفيد اليقين، كانت مخففة من الثقيلة لا غير، نحو علم أنه سيكون، وإن وقعت بعد ما يفيد الظن، كانت ناصبة لا غير، نحو﴿ وَظَنُّوۤاْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ﴾[التوبة: ١١٨]، وإن وقعت بعد ما يحتملهما كان فيه الأمران كهذه الآية، فالرفع على تأويل حسب بمعنى علم، والنصب على تأويلها بالظن. إن قلت: مقتضى هذه القاعدة أن كل ما يفيد الأمرين يجوز فيه الرفع والنصب، مع أنه لم يسمع في أحسب الناس أن يتركوا الرفع ولا النصب في أفلا يرون أن لا يرجع. أجيب بأن القراءة سنَّة متّبعة، لأنه ليس كلما جاز نحواً جاء قراءة، وجملة ﴿ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ في محل نصب سدت مسد مفعولي حسب على كلا القراءتين عند جمهور البصريين، وقيل مسد مفعولها الثاني محذوف تقديره حاصلة. قوله: ﴿ فِتْنَةٌ ﴾ بالرفع فاعل تكون لأنها بمعنى توجد فهي تامة. قوله: ﴿ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ﴾ معطوف على حبسوا، وهذه إشارة إلى ما وقع منهم في المرة الأولى من الفساد والقتل في زمن شعياء وأرمياء، حتى قتلوا شعباء وحبسوا أرمياء، فسلط الله عليهم بختنصر، ففرق جمعهم وأسرهم، وخرب بيت المقدس، وصاروا في غاية الذل والهوان، فلما تابوا توجه ملك من ملوك فارس، فعمر بيت المقدس، وقتل بختنصر، وردهم إلى وطنهم، فكثروا وكانوا أحسن ما كانوا عليه، فمكثوا ثلاثين سنة ثم عموا وصموا ثانياً وقتلوا زكيرا ويحيى، وإلى هذه القصة الإشارة بقوله تعالى في سورة الإسراء﴿ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ﴾[الإسراء: ٤] الآيات، وهذا هو الصحيح، فالمراد ببني إسرائيل من كان في زمن شعياء وأرمياء، لا من كان في زمن موسى وهارون قوله: (بدل من الضمير) أي قوله: و ﴿ عَمُواْ وَصَمُّواْ ﴾ والضمير هو الفاعل، وهذا هو هروب من تخريج الآية على لغة أكلوني البراغيث فإنها ضعيفة، ودفع بقوله ﴿ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ﴾ ما يتوهم أنهم عموا وصموا جميعهم وعطف قوله ﴿ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ ﴾ بثم المفيدة للتراخي، لأن بين التوبة والعمى ثلاثين سنة. قوله: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ ﴾ وهم اليعقوبية من النصارى، وهو شروع في ذكر قبائح النصارى بعد ذكر قبائح اليهود. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ﴾ معنى ذلك عندهم أن الله حل في ذاته عيسى واتحد بها، قوله: ﴿ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ ﴾ الجملة حالية من الواو في قالوا، وهو رد لما ادعوه من ألوهيته، أي فلا عذر لهم في تلك الدعوة، فإن تبرأ منها وبين لهم طريق الهدى. قوله: ﴿ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ ﴾ كالعلة لقوله: ﴿ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ ﴾.
قوله: (منعه أن يدخلها) أي فالمراد بالتحريم مطلق المنع. قوله: ﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ ﴾ أي المشركين. قوله: ﴿ أَنصَارٍ ﴾ أي أعوان يحفظونهم من غضب الله. قوله: (والآخران عيسى الخ) هذا وجه في التثليث عندهم، وهناك وجه آخر عندهم وهو أن الإله مركب من ثلاثة: الأب والابن وروح القدس، فمرادهم بالأب ذات الله، وبالابن صفة الكلام، وبروح القدس الحياة، فاختلطت صفة الكلام بجسد عيسى كاختلاط الماء باللبن، وزعموا أن الأب إله، والابن إله، والروح إله، والكل إله واحد. واعلم أن النصارى في اعتقاد التثليث على أربع فرق، واحدة تقول: كل من ذات الله تعالى وذات عيسى وذات مريم إله، وأخرى تقول: الإله مجموع صفات ثلاث: الوجود والعلم والحياة وعيسى ابنه، وأخرى تقول: الإله مجموع ذات وصفتين، ذات الله ويسمونها الأب وصفة كلامه ويسمونها الابن وصفة الحياة ويسمونها روح القدس، والكل إله واحد، وأخرى تقول: الإله مجموع ذاتين وصفة الله وذات عيسى والحياة الحالة في جسد عيسى. قوله: (وهم فرقة من النصارى) أي وهم النسطورية والمرقوسية.