قوله: ﴿ تَرَىٰ ﴾ أي تبصر وقوله: ﴿ كَثِيراً مِّنْهُمْ ﴾ أي أهل الكتاب. قوله: ﴿ يَتَوَلَّوْنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي يوالونهم ويصادقونهم. قوله: (بغضاً لك) مفعول لأجله أي من أجل بغضك. قوله: ﴿ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ ﴾ اللام موطئة للقسم وبئس كلمة ذم وما فاعل قدمت صلته، والعائد محذوف أي قدمته، وأنفسهم فاعل قدمت، وقوله: ﴿ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ هو المخصوص بالذم، لكن على حذف مضاف تقديره موجب أن سخط الله، والمعنى أن ما قدمت لهم أنفسهم من الضلال تسبب عن سخط الله، وتسبب عن سخط الله الخلود في النار. قوله: (من العمل) بيان لما. قوله: ﴿ وَفِي ٱلْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ﴾ هذه الجملة معطوفة على جملة أن سخط الله عليهم، فهي من جملة المخصوص بالذم، فالمعنى موجب سخط الله والخلود في النار. قوله: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ ﴾ أي وهو القرآن، قوله: ﴿ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ ﴾ أي أنصاراً يوالونهم وقد فعلوا ذلك، فكانوا يأخذون الهدايا لكفار مكة ويصادقونهم ويتوددون إليهم خوفاً من زوال عزهم ورياستهم. قوله: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً ﴾ كلام مستأنف سيق للتقبيح على اليهود والتشنيع عليهم، واللام موطئة لقسم محذوف، وأشد مفعول أول لتجدن، وعداوة منصوب على التمييز، و ﴿ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ متعلق بعداوة أو بمحذوف صفة لعداوة، واليهود مفعول ثان هكذا أعربوا، والأقرب أن أشد مفعول ثان مقدم، واليهود مفعول أول مؤخر. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ ﴾ معطوف على اليهود. وقوله: (لتضاعف كفرهم) علة لقوله أشد. وقوله: (وجهلهم) أي وتضاعف جهلهم. قوله: (وانهاكهم في اتباع الهوى) عطف على تضاعف عطف علة على معلول، والعزى بالقصر ما نهواه النفس وتميل إليه. قوله: ﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ ﴾ يقال في إعرابه ما قيل في الذي قبله من أن أقرب مفعول ثان، والذين قالوا مفعول أول، ومودة تمييز، وللذين صفة للمودة أو متعلق به. قوله: ﴿ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ﴾ أي أنصار دين الله. إن قلت: مقتضى الآية مدح النصارى وذم اليهود، مع أن كفر النصارى أشد لأنهم ينازعون في الربوبية واليهود أخف منهم لأنهم ينازعون في النبوة، أجيب بأن مدح النصارى من جهة قرب مودتهم للمسلمين، وذم اليهود من حيث إنهم أشد عداوة للمسلمين، وذلك لا يقتضي شدة الكفر ولا عدمها، وأيضاً الحرص في اليهود دون النصارى، أنه حرام. قوله: ﴿ ذٰلِكَ ﴾ اسم الإشارة مبتدأ، وإن ﴿ بِأَنَّ مِنْهُمْ ﴾ خبر، و ﴿ قِسِّيسِينَ ﴾ اسم إن، ومنهم متعلق بمحذوف خبر إن ﴿ وَرُهْبَاناً ﴾ معطوف على قسيسين وقوله: ﴿ وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ معطوف على قسيسين. قوله: (أي قرب مودتهم) أشار بذلك إلى مرجع اسم الإشارة. قوله: (بسبب) أشار بذلك إلى أن الباء سببية. قوله: ﴿ قِسِّيسِينَ ﴾ جمع قسيس من يقيس الشيء إذا تتبعه، يقال في قس الأثر وقصه فهو أعجمي معرب، ويقال قس، وقس بفتح القاف وكسرها وهو عالم النصارى. قوله: ﴿ وَرُهْبَاناً ﴾ جمع راهب وهو الزاهد التارك للدنيا وشهواتها. قوله: (نزلت في وفد النجاشي) أي واسمه أصحمة وقيل صحمة. وحاصل ذلك: أنه سنة خمس من البعثة، اشتد أذى الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن أسلم، ولم يكن أمر بجهاد، فأمر الصحابة الذين لا غزوة لهم بالخروج إلى أرض الحبشة، وهي الهجرة الأولى، وقال إن بها ملكاً صالحاً لا يظلم عنده أحد، فأخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجاً، فخرج إليها أحد عشر رجلاً وأربع نسوة سراً، منهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجوا إلى البحر، وأخذوا سفينة بنصف دينار إلى أرض الحبشة، وذلك في رجب، ثم تتابع المسلمون فكانوا اثنين وثمانين رجلاً سوى النساء والصبيان، فلما كانت وقعة بدر وقتل فيها صناديد الكفار، قال كفار قريش: إن ثأركم بأرض الحبشة فأهدوا إلى النجاشي، وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده لتقتلوهم بمن قتل منكم ببدر، فبعث كفار قريش وأحلامهم وزعم أنه نبي، وأنه قد بعث إليك برهط من أصحابه ليفسدوا عليك قومك، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم، وإن قومنا يسألونك أن تردهم إليهم، فقال: حتى نسألهم، فأمر بهم فأحضروا، فلما أتوا باب النجاشي قالوا يستأذن أولياء فقال: ائذنوا لهم فمرحباً بأولياء الله، فلما دخلوا عليه سلموا، فقال الرهط من المشركين أيها الملك ألا ترى أنا صدقناك إنهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها، فقال لهم الملك: ما منعكم أن تحيوني؟ قالوا: إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة، فقال لهم النجاشي: ما يقول صاحلكم في عيسى وأمه؟ فقال جعفر بن أبي طالب: يقول هو عبد الله ورسوله وكلمة الله وروح منه ألقاها إلى مريم العذراء، ويقول في مريم إنها العذراء البتول، قال فأخذ النجاشي عوداً من الأرض وقال: والله ما زاد صاحبكم على ما قال عيسى قدر هذا العود فكره المشركون قوله وتغيرت وجوههم، فقال: هل تعرفون شيئاً مما أنزل على صاحبكم؟ قالوا نعم، قال: اقرؤوا فقرأ جعفر سورة مريم، وهناك قسيسون ورهبانيون وسائر النصارى، فعرفوا ما قرأ فانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق، فأنزل الله تعالى فيهم ﴿ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ﴾ الخ الآيتين، فقال النجاشي لجعفر وأصحابه: اذهبوا فأنتم بأرضي آمنون، وفي بعض الروايات أن عمراً أسلم على يد النجاشي. وبذلك يلغز فيقال صحابي أسلم على يد تابعي، لأن النجاشي لم يجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو اجتمع به بعد مقدمه من الحبشة، وأقام المسلمون عند النجاشي بخير دار وخير جوار، إلى أن هاجر رسول الله إلى المدينة وعلا أمره وقهر أعداءه، وذلك سنة ست من الهجرة، وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت هاجرت مع زوجها ومات عنها، فأرسل النجاشي جارية يقال لها أبرهة إلى أم حبيبة يخبرها أن رسول الله قد خطبها فسرت بذلك وأعطت الجارية أوضاحاً كانت لها، وأذنت لخالد بن سعيد في نكاحها فأنكحها لرسول الله على صداق مبلغه أربعمائة دينار، وكان الخاطب لرسول الله النجاشي، فأرسل إليها بجميع الصداق على يد جاريته أبرهة، فلما جاءتها بالدنانير وهبتها منها خمسين ديناراً فلم تأخذها وقالت إن الملك أمرني أن لا آخذ منك شيئاً، وقالت أنا صاحبة ذهب الملك وثيابه، وقد صدَّقت بمحمد وآمنت به، وحاجتي إليك مني أن لا تقرئيه مني السلام، قالت: نعم، وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من دهن وعود، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاصر خيبر، قالت أم حبيبة: فخرجنا إلى المدينة ورسول الله بخيبر، فخرج من قدم معي وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول الله فدخلت عليه، فكان يسألني عن النجاشي فقرأت عليه السلام من أبرهة جارية الملك، فرد رسول الله عليها السلام، وأنزل الله﴿ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ﴾[الممتحنة: ٧] يعني أبا سفيان وذلك بتزوج رسول الله أم حبيبة ولما بلغ أبا سفيان تزوج رسول الله بأم حبيبة قال: ذلك الفحل لا يجدع أنفه، وبعث النجاشي بعد خروج جعفر وأصحابه إلى رسول الله ابنه أزهى في ستين من أصحابه وكتب إليه: يا رسول الله، إني أشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك جعفراً وأسلمت لله رب العالمين، وقد بعثت إليك ابني أزهى، وإن شئت أن آتيك بنفس فعلت، والسلام عليك يا رسول الله، فركبوا في سفينة أثر جعفر. حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا، ووافى جعفر وأصحابه رسول الله وهو بخيبر، ووافى جعفر في سبعين رجلاً، عليهم الثياب الصوف، منهم اثنان وستون رجلاً من الحبشة وثمانية من الشام، فقرأ عليهم رسول الله سورة يس إلى آخرها، فبكى القوم حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السلام، فأنزل الله هذه الآية فيهم، ولذلك قال قتادة: نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء بها عيسى عليه السلام، فلما بعث صلى الله عليه وسلم آمنوا به وصدقوه فأثنى الله عليهم.


الصفحة التالية
Icon