قوله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ ﴿ إِيَّاكَ ﴾ مفعول مقدم لـ ﴿ نَعْبُدُ ﴾ قدم لإفادة الحصر والاختصاص، و ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ معطوف علي ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ أي لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك، لأنك الحقيق بتلك الصفات العظام، والمعنى: يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة، فهذا ترقٍّ من البرهان إلى العيان، والغيبة إلى الحضور، فهو تعليم من الله تعالى لعباده كيفية الترقي، فإن العبد إذا ذكر الحقيق بالحمد، وهو رب الأرباب، عن قلب حاضر، يجد ذلك العبد من نفسه محركاً للإقبال عليه، وكلما أجرى على قلبه ولسانه صفة من تلك الصفات العظام، قوي ذلك المحرك، إلى أن يؤول ذلك الأمر لخاتمة تلك الصفات، فحينئذ يوجب ذلك المحرك لتناهيه في القوة، إقبال ذلك على العبد على ربه وخالقه المتصف بتلك الصفات، فانتقل من الغيبة لخطابه والتلذذ بمناجاته، فأول الكلام مبني على ما هو مبادي حال العارف من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه العظام، والنظر في آلائه والاستدلال يصنعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه، ثم بعد ذلك أتى بمنتهاه، وهو الخطاب والحضور المشعر بكونه في حضرة الشهود، وإلى هذا المعنى أشار بعض العارفين بقوله: تلك آثارنا تدل علينا   فانظروا بعدنا إلى الآثاروهو مقام الإحسان المشار له بقوله صلى الله عليه وسلم:" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه "واعلم أن ﴿ إِيَّاكَ ﴾ واجب الانفصال، واختلف فيه هل من قبيل الأسم الظاهر؟ وبه قال الزجاج أو هو ضمير؟ وعليه الجمهور، واختلف القائلون بأنه ضمير على أربعة أقوال، أحدها: أنه كله ضمير. الثاني أن إياه وحده ضمير وما بعده اسم مضاف إليه يفسر ما يراد به من تكلم وغيبة وخطاب. الثالث: أن إيا وحده ضمير، وما بعده حروف تفسير ما يراد منه وهو المشهور. الرابع: إن إيا عماد، وما بعده ضمير، والضمير المستكن في ﴿ نَعْبُدُ ﴾ و ﴿ نَسْتَعِينُ ﴾ للقارئ ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة، أو له والسائر الموحدين، أدرج عبادته في عباداتهم، وخلط حاجته بحاجاتهم، لعل عبادته تقبل ببركة عباداتهم، وحاجته يجاب إليها ببركة حاجاتهم، ومن هنا شرعت الجماعة في الصلوات، قال تعالى:﴿ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ ﴾[المائدة: ٢] وقال صلى الله عليه وسلم:" يد الله مع الجماعة ". قوله: ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ كرر الضمير للدلالة على تخصيصه تعالى بكل من العبادة والاستعانة والتلذذ بالمناجاة والخطاب، وقدم العبادة على الاستعانة لأنها وصلة لطلب الحاجة، فإذا أفرد العبد ربه بالعبادة أعانه، وحذف المعمول من كل ليؤذن بالعموم، فيتناول كل معبود به، وكل مستعان عليه، وأصل ﴿ نَسْتَعِينُ ﴾ نستعون، استثقلت الكسرة على الواو، فنقلت إلى الساكن قبلها، فسكنت الواو بعد النقل، وانكسر ما قبلها فقبلت ياء، والقراء السبعية بفتح النون، وقرئ شذوذاً ﴿ نَسْتَعِينُ ﴾ بكسر حرف المضارعة، وهي لغة مطردة في حرف المضارعة، بشرط أن لا يكون ما بعد حرف المضارعة مضموماً، فإن ضم كتقوم امتنع كسر حرف المضارعة، لثقل الانتقال من الكسر إلى الضم، وبشرط أن يكون المضارع من ماض مكسور العين نحو علم، أو في أوله همزة وصل نحو استعان، أو تاء مطاوعة نحو تعلم. قوله: (من توحيد) الخ، بيان للعبادة، وهو إشارة إلى العبادات الأصلية الاعتقادية، وقوله: (وغيره) إشارة إلى العبادات العملية، من صلاة وصوم وزكاة ونحو ذلك. قوله: (وبطلب المعونة) بالياء عطف على (بالعبادة) ولا يجوز أن يكون بالنون عطفاً على (نخصك) لخروجه عن إفادة التخصيص. قوله: (وغيرها) أي من مهمات الدنيا والآخرة.


الصفحة التالية
Icon