قوله: ﴿ وَمَا كَانَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ ﴾ المقصود من هذا الكلام، الرد على من كذب القرآن، وزعم أن ليس من عند الله، والمعنى: لا ينبغي لهذا القرآن أن يختلق ويفتعل، لأن تراكيبه الحسنة أعجزت العالمين، وذلك لأن حسن الكلام على حسب سعة علم المتكلم واطلاعه، ولا أحد أعلم من رب العالمين فلذلك أعجز الخلائق جميعاً لكونه في أعلى طبقات البلاغة، ولذلك قال صاحب الهمزية: أعجز الإنس آية منه   والجن فهلا أتى به البلغاءإلى أن قال: سور منه أشبهت صوراً   منا ومثل النظائر النظراءقوله: (أي افتراء) أشار بذلك إلى أن خبر كان ﴿ أَن ﴾ وما دخلت عليه في تأويل مصدر. قوله: ﴿ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ هذا الاستدراك وقع أحسن موقع، لأنه وقع بين نقيضين: الكذب والصدق، وتصديق بالنصب خبر لكان مقدره، والتقدير ولكن مكان تصديق إلخ، أو مفعول لأجله بفعل محذوف، قدره المفسر بقوله: (أنزل)، و ﴿ تَصْدِيقَ ﴾ بمعنى مصدق، أو بولغ فيه، حتى جعل نفس التصديق على حد زيد عدل، وكذا يقال في قوله: ﴿ وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَابِ ﴾.
قوله: (من الكتب) أي السماوية المنزلة على الأنبياء. قوله: ﴿ وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَابِ ﴾ أي مفصل لما في الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، فالقرآن مفصل لما كتب في اللوح المحفوظ، من علم ما كان وما يكون، وما هو كائن في الدنيا والآخرة، فمن أعطي شيئاً من أسرار القرآن، فلا يحتاج للإطلاع على اللوح المحفوظ، بل يأخذ منه ما أراده. قوله: (وغيرها) أي المغيبات. قوله: ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ حال من التصديق والتفصيل، وهذا هو الأظهر. قوله: (متعلق بتصديق أو بإنزال) أي يكون قوله: ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ معترضاً بين المتعلق والمتعلق. قوله: (وقرىء) أي شاذاً. قوله: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ ﴾ أم منقطعة وتفسر ببل والهمزة، والمعنى أنهم أصروا على تلك المقالة، ولم يذعنوا للحق. قوله: (اختلقه محمد) أي افتعله وليس من عند الله. قوله: ﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ ﴾ هذا تبكيت لمقالتهم الفاسدة، وهي جواب الشرط مقدر، والتقدير إن كان الأمر كما تزعمون، فأتوا بسورة مثله. واعلم أن مراتب تحدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن أربعة. أولها: أنه تحداهم بجميع القرآن. قال تعالى: و﴿ لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ ﴾[الإسراء: ٨٨].
ثانيها: أنه تحداهم بعشر سور. قال تعالى:﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَٰتٍ ﴾[هود: ١٣] ثالثها: أنه تحداهم بسورة واحدة. قال تعالى: ﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ ﴾ رابعها: أنه تحداهم بحديث مثله كما قال تعالى:﴿ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ ﴾[الطور: ٣٤].
قوله: ﴿ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ أي من آلهتكم وغيرها من جميع المخلوقات. قوله: ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه، أي فأتوا بسورة وادعوا، إلخ. قوله: ﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ ﴾ أي بفهم ألفاظه ومعانية العظيمة، فتكذيبهم لعدم فهمهم معناه، وجهلهم بفضله، ففي المثل: من جهل شيئاً عاداه، وقال البوصيري: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد   وينكر الفم طعم الماء من سقمقوله: ﴿ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾ أي لم ينزل بهم الوعيد، فيحملهم على التصديق قهراً، فتكذيبهم لأمرين جهلهم بفضله، وعدم إتيان الوعيد لهم. قوله: (من الوعيد) وهو العذاب الموعود به. قوله: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ (لتكذيب) أشار بذلك إلى أن الكاف بمعنى مثل، نعت لمصدر محذوف، أي مثل ذلك التكذيب كذبوا رسلهم. قوله: (فكذلك نهلك هؤلاء) أي بأن نسلطكم عليهم لتقتلوهم وليس المراد الهلاك العام بالخسف والمسخ مثلاً، فإن ذلك مرفوع ببركته صلى الله عليه وسلم.


الصفحة التالية
Icon