قوله: ﴿ وَمَا ظَنُّ ٱلَّذِينَ ﴾ ﴿ وَمَا ﴾ اسم استفهام مبتدأ، و ﴿ ظَنُّ ﴾ خبره، و ﴿ يَوْمَ ﴾ ظرف متعلق بظن، والمعنى أي شيء ظنهم بالله يوم القيامة. قوله: (أيحسبون) إلخ. قدر المفسر هذه الجملة، إشارة إلى أن مفعولي الظن محذوفان فهذه الجملة سدت مسدّهما. قوله: (لا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري أي لا ينبغي هذا الظن، ولا يليق ولا ينفع، وأما قوله في الحديث:" أنا عند ظن عبدي بي "فذلك في حق المؤمن، فظن الخير بالله ينفع المؤمن، وأما الكافر فلا ينفعه ذلك ما دام على كفره. قوله: ﴿ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ ﴾ أي الطائع منهم والعاصي، وذلك في الدنيا، فنعم الدنيا ليست تابعة للتقوى، بل هي ثابتة بالقسمة الأزلية للمؤمن والكافر. قوله: (بإمهالهم) أي تأخير عذابهم. قوله: (والإنعام عليهم) أي بأنواع النعم، كالعقل والسمع والبصر وغير ذلك. قوله: ﴿ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾ أي لا يصرفون النعم في مصارفها، وحينئذ فلا تنفعهم تلك النعم، إلاّ إذا صحبها الإيمان والشكر، فإن عدموا الإيمان صارت النعم نقماً، وقوله: ﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ ﴾ يفيد أن القليل هو الشاكر وهو كذلك. قال تعالى:﴿ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ ﴾[سبأ: ١٣].
قوله: ﴿ وَمَا تَتْلُواْ ﴾ الضمير إما عائد على الشأن أو على الله، كما قال المفسر. فعلى الأول تكون من للتعليل، وعلى الثاني تكون ابتدائية، وقوله: ﴿ مِن قُرْآنٍ ﴾ من صلة، والمعنى وما تتلو من أجل هذا الشأن قرآناً، أو وما تتلوا قرآناً مبتدأ وصادر من الله. قوله: ﴿ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً ﴾ استثناء من أعم الأحوال، والمعنى ما تتلبسون بشيء من هذه الثلاثة في حال من الأحوال، إلا في حال كوننا رقباء مطلعين عليه حافظين له. إذا علمت ذلك، فكان المناسب للمفسر أن يعيد الضمير في فيه لكل من الثلاثة، وقد يجاب بأنه أعاده على الفعل لعمومه وشموله لباقي الثلاثة. قوله: ﴿ إِذْ تُفِيضُونَ ﴾ ظرف لقوله شهوداً. قوله: ﴿ وَمَا يَعْزُبُ ﴾ بضم الزاي وكسرها، قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ عَن رَّبِّكَ ﴾ أي عن علمه. قوله: (أصغر نملة) وقيل هو الهباء، وقيل أصغر بعوضة. قوله: ﴿ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ ﴾ أي في سائر الموجودات، وعبر عنه في السماء والأرض لمشاهدة الخلق لهما. واعلم أن عالم الملك ما يشاهده الخلق، كالأرض وما حوته، وما ظهر من السماء، وعالم الملكوت ما لا يشاهد، كما فوق السماء من العرش والكرسي والملائكة وغير ذلك، وعالم الجبروت هو عالم الأسرار، وعالم العزة هو ما استأثر الله بعلمه، كعلم ذاته وصفاته ومراداته. قوله: ﴿ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ ﴾ بالرفع والنصب، قراءتان سبعيتان، فالرفع إما على الابتداء والخبر، أو على أن ﴿ وَلاَ ﴾ عاملة عمل ليس، والخبر على كلا الإعرابين. قوله: ﴿ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾.
فتكون الجملة مستأنفة منقطعة عما قبلها، والنصب على أنها عاملة عمل إن، لأن أصغر وأكبر شبيهان بالمضاف، تعلق بهما شيء من تمام معناهما، وهو العمل في الجار والمجرور، وهاتان القراءاتان هنا فقط، وأما في سبأ فبالرفع باتفاق السبعة. قوله: ﴿ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ الاستثناء منقطع، والمعنى لكن جميع الأشياء في كتاب مبين، فهو استدراج على ما يتوهم نفيه لأن قوله لا يعزب عن ربك الخ. ربما يتوهم منه أنه لم يحط بها غير علم الله، فدفع ذلك بقوله: ﴿ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ أي لكن جميع الأشياء مثبتة في كتاب مبين أيضاً، ولا يصح أن يكون متصلاً، لأنه يصير المعنى لا يغيب عن علمه عن علم الله وذلك باطل، وهذا الإشكال لا يرد إلا على جعل قوله ولا أصغر ولا أكبر، معطوفاً على مثقال، وأما إن جعل مستأنفاً كما تقرر، فلا يرد الإشكال فتأمل. قوله: ﴿ أَلاۤ ﴾ أداة تنبيه، يؤتى بها ليتنبه السامع لما بعدها، ويعتني بها لعظمه. قوله: ﴿ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ ﴾ جمع ولي من الولاء، وهو العز والنصر، سموا بذلك لأنهم هم المنصورون بالله المعزوزون به، لا يطمعون في شيء سوى القرب منه، وولي فعيل، إما بمعنى فاعل، أي متولي خدمة ربه بكل ما أمكنه، بروحه وجسمه ودنياه، أو بمعنى مفعول، أي تولى الله إكرامه وعطاياه ونفحاته، فلم يكله لشيء سواه، فحيث تولى الخدمة، تولاه الله بالنعمة والنفحة، وهو سر قوله في الحديث:" يا دنيا من خدمني فاخدميه "فحينئذ صار معنى الولي المنهمك في طاعة ربه، الذي أفيضت عليه الأنوار والأسرار؛ لما ورد" من تقرب مني شبراً، تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً، تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي، أتيته هرولة "وعلامة الولي كما في الحديث:" سئل رسول الله عن علامة الأولياء فقال: هم الذين ادارؤوا ذكر الله تعالى "وسبب ذلك ظهور أنوار المعرفة الكائنة في قلوبهم على ظواهرهم وذلك سر قوله تعالى:﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ﴾[الفتح: ٢٩] وقال أبو بكر الأصم: أولياء الله هم الذين تولى الله هدايتهم، وتولوا القيام بحق العبودية لله تعالى والدعوة إليه، والولي من الولاء، وهو القرب والنصرة فولي الله هو الذي يتقرب إلى الله بكل ما افترض الله عليه، ويكون مشتغلاً بالله، مستغرق القلب في نور معرفة جلال الله تعالى، فإن رأى، رأى دلائل قدرة الله، وإن سمع، سمع آيات الله، وإن نطق، نطق بالثناء على الله، وإن تحرك، تحرك في طاعة الله، وإن اجتهد اجتهد فيما يقربه إلى الله، لا يفتر عن ذكر الله، ولا يرى بقلبه غير الله، فهذه صفات أولياء الله، وإذ كان العبد كذلك، كان الله وليه وناصره ومعينه، قال تعالى:﴿ ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾[البقرة: ٢٥٧].
وروي عن ابن مالك الأشعري قال:" كنت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لله عباداً، ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء، بقربهم ومقعدهم من الله يوم القيامة، قال: وفي ناحية القوم أعرابي، فجثا على ركبته ورمى بيديه ثم قال: حدثنا يا رسول الله عنهم، من هم؟ قال: فرأيت في وجه رسول الله البشرى، فقال: هم عباد من عباد الله، ومن بلدان شتى، لم يكن بينهم أرحام يتواصلون بها، ولا دنيا يتباذلون بها، يتحابون بروح الله، يجعل الله وجوهه نوراً، وجعل له منابر من لؤلؤة قدام الرحمن، يفزع الناس ولا يفزعون، ويخاف الناس ولا يخافون "وروي عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن من عباد الله أناساً، ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله، قالوا: يا رسول الله تخبرنا بأمرهم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله، على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، وقرأ هذه الآية ﴿ أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ "وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" قال الله تعالى: (إن أوليائي من عبادي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهكم) ". قوله: ﴿ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ لحفظ الله لهم في الدنيا من الأسباب التي توجب الخوف والحزن في الآخرة. قوله: (في الآخرة) أي لما في الحديث:" لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس "قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ قدر المفسر (هم) إشارة إلى أن الاسم الموصول خبر لمبتدأ محذوف، وهذه الجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر تقديره ما صفات أولياء الله؟ فأجاب: بأنهم الذين اتصفوا بالإيمان والتقوى، والمعنى أن أولياء الله هم الذين اتصفوا بالإيمان، وهو الاعتقاد الصحيح المبني على الدلائل القطعية والتقوى، وهي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات على طبق الشرع، ولذا قال القشيري: شرط الولي أن يكون محفوظاً، كما أن من شرط النبي أن يكون معصوماً، فكل من كان للشرع عليه اعتراض، فهو مغرور مخادع، وقال الإمام الشافعي وأبو حنيفة: إذا لم تكن العلماء أولياء الله، فليس لله ولي، وذلك في العالم العامل بعلمه. قوله: (فسرت في حديث صححه الحاكم بالرؤيا الصالحة) إلخ. أي لأنه لم يبقَ من النبوة إلا المبشرات، وهي الرؤيا الصالحة. وفي الحديث:" الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة "وقيل: المراد بالبشرى في الحياة الدنيا، نزول الملائكة بالبشارة من عند الله عند الموت، ويدل عليه قوله تعالى:﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾[فصلت: ٣٠] وقيل: البشرى في الحياة الدنيا الثناء الحسن، ومحبة الخلق لهم،" لما ورد عن أبي ذر: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه، قال: " عاجل بشرى المؤمن "وورد أيضاً" إذا أحب الله عبداً نادى جبريل فيقول له: إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض "قال بعض المحققين: إذا اشتغل العبد بالله عز وجل استنار قلبه وامتلأ نوراً فيفيض من ذلك النور الذي في قلبه على وجهه، فيظهر عليه آثار الخشوع والخضوع، فيحبه الناس ويثنون عليه، فتلك عاجل بشراه، بمحبة الله له ورضوانه عليه، وقيل: البشرى في الحياة الدنيا ظهور الكرامات وقضاء الحوائج بسهولة، فكلما توجه العبد المحبوب لشيء من أموره قضى عاجلاً، والأحسن أن يراد بالبشرى في الدنيا جميع ما تقدم وأعظمها التوفيق لخدمة الله، وراحة الجسد في طاعة الله، وانشراح الصدر لذلك، وأما البشرى في الآخرة فالجنة وما فيها من النعيم الدائم، قال تعالى:﴿ يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾[الحديد: ١٢].
قوله: (لا خلف لمواعيده) أي التي وعد الله بها أولياءه وأهل طاعته، في كتابه وعلى ألسنة رسله، والمعنى لا تغيير لذلك الوعد. قوله: ﴿ ذٰلِكَ ﴾ أي الوعد المتقدم من كونهم ﴿ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ و ﴿ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ ﴾ وكون هذا الوعد لا يتغير ولا يتبدل. قوله: ﴿ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾ أي الظفر بالمقصود الكامل الذي لا يضاهى.


الصفحة التالية
Icon