قوله: ﴿ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ هذا تنزل من الله سبحانه وتعالى، حيث عامل عباده معاملة ملك عدل في رعيته، حيث أمرهم بطاعته المرة بعد المرة وأغدق عليهم النعم، وكلما عصوه سترهم وأمدهم بالعطايا، فلما تكرر منهم العصيان وعدم الخوف أخذهم بالعقاب، فهل هذا ظلم منه أو عدل؟ وجواب الاستفهام أنه عدل لو كان صادراً من سلطان في رعيته، فكيف من الخالق الذي يستحيل عليه الظلم عقلاً؟ قوله: (فكذلك أفعل بمن استهزأ بك) أي لا على العموم إكراماً لنبيه صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير أعميتم وسويتم بين الله وبين خلقه فمن هو قائم إلخ، والمعنى أفمن كان حافظاً للنفوس ورازقها وعالماً بها، كمن ليس بقائم، بل هو عاجز عن القيام بنفسه فضلاً عن غيره؟ قوله: (لا) هذا هو جواب الإستفهام. قوله: (دل على هذا) أي على الجواب المحذوف، وهذا نظير قوله تعالى:﴿ أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ﴾[الزمر: ٢٢] أي كمن قسا قلبه، يدل عليه قوله﴿ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾[الزمر: ٢٢]، ونظيره قوله تعالى:﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾[النحل: ١٧] ولكنه صرح فيها بالمقابل. قوله: ﴿ قُلْ سَمُّوهُمْ ﴾ أي صفوهم، وانظروا هل بتلك الأوصاف تستحق العبادة؟ قوله: (من هم) أي بينوا حقيقتهم من أي جنس ومن أي نوع. قوله: ﴿ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ ﴾ إلخ، أم منقطعة، فلذا فسرها ببل والهمزة، والمعنى أتخبرون الله بشريك لا يعلمه في الأرض لعدم وجوده، إذ لو وجد لعلمه، وخص بالأرض لكون آلهتهم التي جعلوها شركاء كائنين فيها. قوله: ﴿ أَم بِظَاهِرٍ ﴾ أم هنا للإضراب الإبطالي، ولذا فسرها ببل فقط، والمعنى أن تسميتهم شركاء، ظن باطل فاسد لا يعتبر، وإنما هو اسم من غير مسمى. قوله: ﴿ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ إضراب عن محاججتهم كأنه قال: لا تلتفت لهم ولا تعتبر بهم، فإنهم لا فائدة فيهم، لأنهم زين لهم ما هم عليه من المكر والكفر. قوله: ﴿ وَصُدُّواْ ﴾ بضم الصاد وفتحه قراءتان سبعيتان، والمعنى منعوا عن طريق الهدى، أو منعوا الناس عنه. فائدة: قال الطيبي: في هذه الآية احتجاج بليغ مبني على فنون من علم البيان، أولها: ﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ (كمن ليس كذلك) احتجاج عليهم وتوبيخ لهم على القياس الفاسد لفقد الجهة الجامعة لهما. ثانيهما: ﴿ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ ﴾ من وضع الظاهر موضع الضمير، للتنبيه على أنهم جعلوا شركاء لمن هو فرد واحد، لا يشاركه أحد في اسمه. ثالثها: قوله: ﴿ قُلْ سَمُّوهُمْ ﴾ أي عينوا أسماءهم، فقولوا فلان وفلان، فهو إنكار لوجودها على وجه برهاني كما تقول: إن كان الذي تدعيه موجوداً فسمه، لأن المراد بالاسم العلم. رابعها: قوله: ﴿ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ ﴾ احتجاج من باب نفي الشيء بنفي لازمه، وهو المعلوم وهو كناية. خامسها: قوله: ﴿ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ ٱلْقَوْلِ ﴾ احتجاج من باب الاستدراج، والهمزة للتقرير لبعثهم على التفكر، المعنى أتقولون بأفواهكم من غير رؤية، فتفكروا فيه لتقفوا على بطلانه. وسادسها: التدرج في كل من الإضرابات على ألطف وجه، وحيث كانت الآية مشتملة على هذه الأساليب البديعة مع اختصارها، كان الاحتجاج المذكور منادياً على نفسه بالإعجاز، وأنه ليس من كلام البشر، اهـ.


الصفحة التالية
Icon