قوله: ﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ ﴾ هذا هو حكمة التولية أي فما أمرناكم بالتوبة لأجل انتفاء حجة الناس عليكم، واللام هذه لام كي وإن مصدرية ولا نافية ويكون منصوب بأن، وللناس خبرها مقدم وحجة اسمها مؤخر وعليكم حال من حجة لأنه نعت نكرة تقدم عليها، قوله: (أي لتنتفي إلخ) هذا حل معنى لا حل إعراب، ولو حله حل إعراب لقال لعدم كون حجة ثابتة للناس عليكم قوله: (أي مجادلة) أي جدال في الباطل واعتراض وليس المراد بها المجادلة في الحق وإظهار حجته قوله: (من قول اليهود) هذا بيان للمجادلة، قوله: (وقول المشركين) أي فقد زال ذلك وأما قولهم ما زال محمد في حيرة فباقية لم تزل، قوله: (فإنهم يقولون) أي اليهود، والحاصل أن الحجج أربع: لليهود حجتان وللمشركين كذلك، أما حجة اليهود فهي ما له يصلي لقبلتنا ولا يتبع ديننا وأما حجة المشركين فهي يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته، وهاتان الحجتان قد انقطعتا وبقيت حجة لكل، أما حجة اليهود فقولهم ما تحول إليها إلا ميلاً لدين الجاهلية، وأما حجة المشركين فقولهم لم يزل محمد في حيرة، قوله: (والإستثناء متصل) أي لأن ما قبله ظالمون أيضاً، وقوله: (تخافوا جدالهم) أي لا يقدرون على إيصال نفع ولا دفع ضرر، قوله: (عطف على لئلا يكون) أي فتحويل القبلة لحكم عظيمة الأولى تمييز المؤمن من غيره، الثانية انقطاع الحجج، الثالثة إتمام النعمة، الرابعة الإهتداء إن قلت إن مقتضى هذه الآية إن النعمة تمت الآن ومقتضى ما يأتي في سورة المائدة في قوله تعالى:﴿ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾[المائدة: ٣] أنها لم تتم إلا حين نزولها وهو يوم عرفة في حجة الوداع. أجيب بأن النعمة مقولة بالتشكيك، فالمراد بها هنا استقبال الأشرف الذي هو الكعبة والمراد بها هنا الدين، قوله: ﴿ مِّنْكُمْ ﴾ هذه نعمة أخرى فوق أصل الإرسال لأنه لو كان ملكاً لما استطاعوه لأن علة الإنضمام المجانسة، قوله: (القرآن) خصه من دون المعجزات لأنه باق إلى الآن. قوله: (يطهركم من الشرك) أي حتى صرتم عدولاً تشهدون على الناس يوم القيامة، ويصح أن يقال معنى ﴿ يُزَكِّيكُمْ ﴾ يشهد لكم بالعدالة يوم القيامة. قوله: ﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَابَ ﴾ أي حتى حفظتم لفظه عن ظهر قلب لقوله في الحديث:" وجعلت من أمتك أقواماً قلوبهم أناجيلهم "قوله: (ما فيه من الأحكام) أي المعاني التي لا تحصى، قال علي بن أبي طالب: لو أردت أن أوقر من الفاتحة حمل سبعين بعيراً لفعلت، ومن معناه ما قال الخواص مما منَّ الله به علي أن أعطاني مائة ألف علم وتسعة وتسعين ألفاً من علوم الفاتحة، قوله: ﴿ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾ عطف عام على خاص، قوله: (ونحوه) أي كالتهليل والتحميد، وإنما قال بالصلاة لأن الذكر إما باللسان أو الجوارح أو بالجنان، ولا شك أن الصلاة جامعة لكل ذكر، فالقراءة والتكبير والتسبيح والدعاء ذكر لساني، والركوع والسجود ذكر بالجوارح والخشوع والخضوع والمراقبة ذكر قلبي، قوله: أي خالياً وبعيداً عن الخلق، قوله: (ذكرته في نفسي) أي أعطيه عطايا لا يعلمها غيري، قوله: (ومن ذكرني في ملأ) أي بين الناس، قوله: (ذكرته في ملأ) أي أعطيته عطايا ظاهرة لعبادي وأظهر فضله لهم، إن قلت إن الإنسان قد يذكر الله بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم كالصحابة فأي ملأ خير من النبي، قلت أجيب بأن الشيء يشرف بما نسب إليه، فإن المجلس ينسب لكبيره وفرق بين حضرة الله وملائكته، وبين حضرة النبي وأصحابه، وأيضاً كون النبي في حضرة الله اشرف من نفسه في حضرة أصحابه، فمعنى قوله خير من ملئه ذكرته في حضرة النبي والملائكة المقربين في الملأ الأعلى، ولا شك أن تلك الحضرة لا يعدلها شيء أبداً، والملأ بالقصر الجماعة الأشراف قوله: (خير) بالجر صفة الملأ وقيل معنى اذكروني تذللوا لجلالي، أذكركم أكشف الحجب عنكم وأفيض عليكم رحمتي وإحساني وأحبكم وأرفع ذكركم في الملأ الأعلى لما في الحديث:" ومن تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً "وفي الحديث أيضاً" إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه " فيحبه جبريل، ثم ينادى في السماء إن الله يجب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض "وهذا من جملة الثمرات المعجلة، وأما المؤجلة فرؤية وجهه الكريم ورفع الدرجات وغير ذلك وينبغي للإنسان أن يذكر الله كثيراً لقوله تعالى:﴿ وَٱلذَّاكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾[الأحزاب: ٣٥] ولا يلتفت لواش ولا رقيب، لقول السيد الحفني خطاباً للعارف بالله تعالى إستاذنا الشيخ الدردير: يا مبتغي طرق أهل الله والتسليك دع عنك أهل الهوى تسلم من التشكيكإن اذكروني لرد المعترض يكفيك فاجعل سلافاً الجلالة دائماً في فيكولا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه، فربما ذكر مع غفلة يجر لذكر مع حضور، لأنهم شبهوا الذكر بقدح الزناد، فلا يترك الإنسان القدح لعدم إيقاده من أول مرة مثلاً بل يكرر حتى يوقد، فإذا ولع القلب نارت الأعضاء فلا يقدر الشيطان على وسوسته، لقوله تعالى:﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ ﴾[الأعراف: ٢٠١] وخفت العبادة على الأعضاء فلا يكون على الشخص كلفة فيها، قال العارف: إذا رفع الحجاب فلا ملالة بتكليف الإله ولا مشقةويكفي الذاكر من الشرف قول قول الله تعالى في الحديث القدسي" أنا جليس من ذكرني "وقوله تعالى:﴿ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ﴾[الأنفال: ٤٥] وهل الأفضل الذكر مع الناس أو الذكر في خلوة، والحق التفصيل، وهو إن كان الإنسان ينشط وحده ولم يكن مدعواً من الله لهداية الناس فالخلوة في حقه أفضل، وإلا فذكره مع الناس أفضل إما لينشط أو ليقتدي الناس به، نسأل الله أن يجعلنا من أهل ذكره.