قوله: (بقتل زكريا) الخ، مشى المفسر على أن المرة الأولى هي قتل زكريا، والثانية هي قتل ولده يحيى، ومشى غيره على أن المرة الأولى، مخالفة أحكام التوراة، وقتل شعياء وقيل أرمياء، والثانية قتل زكريا ويحيى، وقصد قتل عيسى قوله: (فبعث عليهم جالوت وجنوده) الصحيح أن الذي بعث عليهم في المرة الأولى بختنصر، قيل وقد كانت مدة ملكه سبعمائة سنة وأما جالوت وجنوده، فلم يقع منهم تخريب لبيت المقدس، بل جاؤوا ليغزوهم، فخرج إليهم داود وطالوت بجيوشهم، فقتل الله جالوت على يد داود، كما تقدم مفصلاً في سورة البقرة. قوله: (الدولة) في المصباح تداول للقوم الشيء، وهو حصوله في يد هذا تارة، وفي يد هذا أخرى، والاسم الدولة بفتح الدال وضمها، وجمع المفتوح دول بالكسر كقصعة وقصع، وجمع المضموم دول كغرفة وغرف اهـ. قوله: (والغلبة) تفسير. قوله: ﴿ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ﴾ أي بعد النهب والقتل الأول. قوله: ﴿ أَكْثَرَ نَفِيراً ﴾ أي أكثر الناس اجتماعاً وذهاباً للعدو، ونفيراً منصوب على التمييز. قوله: ﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ ﴾ الخطاب لبني إسرائيل قوله: ﴿ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ ﴾ أي فلا يصل إلى شيء من طاعتكم إذ مستحيل على الله تعالى أن يصل له من عباده نفع أو ضر، وحينئذ فلا ينبغي للإنسان أن يفتخر بطاعته، بل يعمل الطاعة وهو راج قبولها من ربه، لأنها علامة على دوام السعادة لصاحبها وأنه من أهل النعيم، ففي الحديث" يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، وإنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه "وقال العارف: ماذا يضرك وهو عا   ص أو يفيدك وهو طائعفمن ظن أن الله ينتفع بالعبادة فقد كفر، لنسبته الافتقار له تعالى الله عنه. قوله: ﴿ فَلَهَا ﴾ خبر مبتدأ محذوف قدره المفسر، واللام بمعنى على، وإنما عبر بها للمشاكلة. قوله: ﴿ فَإِذَا جَآءَ ﴾ جواب الشرط محذوف قدره المفسر بقوله: (بعثناهم) دل عليه جواب إذا الأولى. قوله: ﴿ ٱلآخِرَةِ ﴾ صفة لموصوف محذوف قدره المفسر بقوله: (المرة). قوله: ﴿ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾ متعلق بهذا الجواب المحذوف، وفيها ثلاث قراءات سبعية: الأولى بضمير الجماعة مع الياء، فالواو فاعل الثانية بنون العظمة وفتح الهمزة آخراً، والفاعل هو الله. الثالثة بالياء المفتوحة والهمزة المفتوحة، والفاعل إما لله وإما الوعد وإما البعث وإما النفير، تأمل. قوله: (بقتل يحيى) أي وقيل بقتل زكرياء ويحيى، وقصد قتل عيسى. قوله: (فبعث عليهم بختنصر) وهو بضم الباء وسكون الخاء المعجمة والتاء المثناة معناه ابن ونصر بفتح النون وتشديد الصاد والراء المهملة اسم صنم وهو على أعجمي مركب وسمي بذلك لأنه وجد وهو صغير مطروحاً عند صنم ولم يعرف له أب فنسب إليه قيل إنه ملك الأقاليم كلها، قيل المسلط عليهم في المرة الثانية خردوش ملك من ملوك بابل وسيأتي في السيرة. قوله: (ألوفاً) أي نحو الأربعين. قوله: (وسبى ذريتهم) أي نحو السبعين ألفاً. قوله: (وقلنا في الكتاب) أي التوراة. قوله: (وضرب الجزية عليهم) أي على باقيهم كأهل خيبر. قوله: (وسجنا) تفسير فيكون معنى حصيراً محلا حاصراً لهم وقيل حصيراً فرشاً كالحصير فيكون بمعنى قوله تعالى﴿ لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ ﴾[الأعراف: ٤١].
- تتمة - يذكر فيها تلخيص القصة التي ذكرها المفسرون في هذه الآيات، قال محمد بن إسحاق: كانت بنو إسرائيل فيهم الأحداث والذنوب، وكان الله متجاوزاً عنهم ومحسناً إليهم، وكان أول ما نزل بهم، أن ملكاً منهم كان يدعى صديقة، وكان الله إذا ملك عليهم الملك، بعث معه نبياً يسدده ويرشده ويتبع الأحكام التي تنزل عليه، فبعث الله معه شيعا بن أمضيا عليه السلام، وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى، ففي آخر مدة صديقة، عظمت الأحداث فيهم والمعاصي، فبعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل ومعه ستمائة ألف راية، فنزل حول بيت المقدس، والملك مريض من قرحة كانت في ساقه، فجاء شعيا إليه وقال له: يا ملك بني إسرائيل، إن سنحاريب نزل بك هو وجنوده، فقال: يا نبي الله هل أتاك من الله وحي فيما حدث فتخبرنا به؟ فقال: لم يأتتني وحي في ذلك، فبينما هم على ذلك، أوحى الله إلى شعياء، أن ائت إلى ملك إسرائيل، فمره أن يوصي وصيته، ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته فإنه ميت، فأخبره شعيا بذلك، فأقبل الملك على القبلة، وصار يصلي ويتضرع إلى الله بقلب مخلص، فاستجاب الله دعاء الملك، وأوحى إلى شعياء، أن أخبر صديقة أن ربه استجاب له ورحمه، وأخر أجله خمس عشرة سنة، وأنجاه من عدوه سنحاريب، فلما قال له ذلك، انقطع عنه الحزن، وخر ساجداً شاكراً لله متضرعاً، فلما رفع رأسه، أوحى الله إلى شعياء، أن قل للملك يأتي بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى، فأخبره ففعل فشفاه الله، فقال الملك لشعيا: سل ربك أن يجعل لنا علماً بما هو صانع بعدونا هذا، قال الله لشعيا: سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريب وخمسة نفر من كتابه، فلما أصبح وجدوا الأمر كما ذكر، فخرج الملك والتمس سنحاريب، فلم يجده في الموتى، فبعث في طلبه فأدركه ومعه خمسة نفر أحدهم بختنصر، فجعلوهم في أطواق الحديد، وقال الملك لسنحاريب: كيف رأيت فعل ربنا بكم، ونحن وأنتم غافلون؟ فقال سنحاريب: قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم، قبل أن أخرج من بلادي، فلم أطع مرشداً، وأوقعتني في الشقوة قلة العقل، فقال الملك لسنحاريب: إن ربنا لم يبقك ومن معك لكرامة بك عليه، وإنما أبقاك ومن معك، لتزدادوا شقوة في الدنيا وعذاباً في الآخرة، ولتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل ربنا بكم، ثم إن الملك أطال عليهم العذاب، فقال سنحاريب له: القتل خير مما تفعل، فأوحى الله إلى شعيا، أن يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم ففعل، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل فأخبروهم الخبر، فقال له قومه: نهيناك فلم تطعنا، وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم، وكان أمر سنحاريب تخويفاً لبني إسرائيل، ثم كفاهم الله تعالى شرهم تذكرة وعبرة، ثم إن سنحاريب لبث سبع سنين ومات، فاستخلف على ملكه بختنصر، فعمل بعمله واستمر متباعداً عن بني إسرائيل، حتى مات ملكهم، فتنافسوا في الملك، وقتل بعضهم بعضاً، وشعيا ينهاهم فلم يقبلوا، فأوحى الله لشعيا قم في قومك أوح على لسانك، فلما قام أنطق الله لسانه بالوحي فقال: يا سماء استمعي، ويا أرض أنصتي، فإن الله يريد أن يقضي شأن بني إسرائيل، الذين رباهم بنعمته، واصطنعهم لنفسه، وخصهم بكرامته، وفضلهم على عباده، وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها، وضرب الله لهم مثلاً ثم قال: إنه مثل ضربته لهم، يتقربون إلي بذبح البقر والغنم، وليس ينالني اللحم ولا أكله، ويدعون أن يتقربوا إلي بالتقوى، والكف عن ذبح الأنفس التي حرمتها، وأيديهم مخضوبة منها، وثيابهم متزملة بدمائها، يشيدون لي بالبيوت مساجد، ويطهرون أجوافها، وينجسون قلوبهم وأجسادهم ويدنسونها، ويزوقون لي المساجد ويزينونها، ويخربون عقولهم وأخلاقهم ويفسدونها، فأي حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها، وأي حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها، إنما أمرت برفعها، لأذكر وأسبح، يقولون صمنا فلم يرفع صيامنا، وصلينا فلم تنور صلاتنا، وتصدقنا فلم تزك صدقاتنا، ودعونا بمثل حنين الحمام، وبكينا بمثل عواء الذئاب، في كل ذلك لا يستجاب لنا، قال الله: فسلهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم؟ ألست أسمع السامعين، وأبصر الناظرين، وأقرب المحبين، وأرحم الراحمين؟ فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور، ويتقوون عليه بطعمة الحرام؟ أم كيف أنور صلاتهم، وقلوبهم صياغة إلى من يحاربني ويحادني وينتهك محارمي؟ أم كيف تزكو عندي صدقاتهم، وهم يتصدقون بأموال غيرهم؟ إنما آجر عليها أهلها المغصوبين. أم كيف أستجيب دعاءهم؟ وإنما هو قول بألسنتهم، والفعل من ذلك بعيد، إلى أن قال: وإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض، أن أجعل النبوة في الأجراء، وأن أجعل الملك في الرعاء، والعز في الأذلاء، والقوة في الضعفاء والغنى في الفقراء، والعلم في الجهلة، والحلم في الأميين، فسلهم متى هذا؟ ومن القائم بها من أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون؟ فإني باعث نبياً أمياً ليس أعجمياً من عميان ضالين، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا متزين بالفحش، ولا قوال للخنا، أسدده لكل جميل، واهب له كل خلق كريم اجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة مقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، واحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة وأرفع به بعد الخمالة وأشهر به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، أجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين قلوب مختلفة، وأهواء مشتتة، وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، توحيداً لي، وإيماناً بي، وإخلاصاً لي، يصلون لي قياماً وقعدواً، وركعاً وسجوداً، يقاتلون في سبيلي صفوفاً وزحوفاً، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني، ألهمهم التكبير والتوحيد، والتسبيح والتحميد، والمدحة لي والتمجيد لي، في مسيرهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، قربانهم دماؤهم، وأنا جيلهم في صدورهم، رهبان بالليل، ليوث بالنهار، ذلك فضلي أوتيه من أشاء، والله ذو الفضل العظيم. فلما فرغ شعيا من مقالته، عدوا عليه ليقتلوه، فهرب منهم فلقيته شجرة فانفلقت له فدخل فيها، فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها، واستخلف الله عليهم ملكاً يقال له ناشئة بن أموص، وبعث لهم أرميا بن حلقيا نبياً، ثم عظمت الأحداث وارتكاب المعاصي، فأوحى الله إلى أرميا، أن ائت قومك من بني إسرائيل، فاقصص عليهم ما آمرك به، إلى أن قال: وإني حلفت بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، ولأسلطن عليهم جباراً قاسياً، البسه الهيبة، وأنزع من صدره الرحمة، فسلط الله عليهم بختنصر، فخرج في ستمائة الف راية، ودخل بيت المقدس بجنوده، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، وخرب بيت المقدس، وكان من أجل البيوت، ابتناه الله لسليمان بن داود عليهما السلام، سخر له الجن فأتوه بالذهب والفضة والمعادن، وأتوه بالجوهر والياقوت والزمرد، وبنوه بهذه الأصناف، فاحتمل تلك المعادن والأموال، على سبعين ألفاً ومائة الف عجلة، فأودعها ببابل، وأقاموا يستخدمون بني إسرائيل بالخزي والنكال مائة عام، إلى أن قال فذلك قوله تعالى:﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ﴾[الإسراء: ٥] يعني بختنصر وأصحابه، ثم إن بختنصر، قام في سلطانه ما شاء الله، ثم رأى رؤيا عجيبة، إذ رأى شيئاً أصابه فأنساه الذي رأى، فدعا دانيال وحنانيا وعزازيا وميشايل، وكانوا من ذراري الأنبياء، وسألهم عنها فقالوا: أخبرنا بها نخبرك بتأويلها قال: ما أذكرها، ولئن لم تخبروني بها وبتأويلها لأنزعن أكنافكم، فخرجوا من عنده فدعوا الله فأعلمهم بالذي سألهم، فجاؤوا فقالوا: رأيت تمثالاً قدماه وساقاه من فخار، وركبتاه وفخذاه من نحاس، وبطنه من فضة، وصدره من ذهب، ورأسه وعنقه من حديد، قال: صدقتم، قالوا: فبينما أنت تنظر إليه قد أعجبك، أرسل الله عليه صخرة فدقته، فهي التي أنستكها، قال: صدقتم فما تأويلها؟ قالوا: إنك أريت ملك الملوك، بعضهم كان ألين ملكاً، وبعضهم كان أحسن من ذلك، والذهب أحسن من الفضة، ثم فوقه النحاس أشد منه، ثم فوق النحاس الفضة أحسن من ذلك، والذهب أحسن من الفضة، ثم الحديد ملكك فهو أشد مما كان قبله، والصخرة التي رأيت، أرسل الله من السماء فدقته نبي يبعثه الله فيدق ذلك أجمع، ويصير الأمر إليه، فلما تجبر بختنصر على أهل الأرض، ظن أنه بحوله وقوته، فقال لأصحابه: قد ملكت الأرض فأخبروني كيف لي أن أطلع إلى السماء العليا، فأقتل من فيها وأتخذها ملكاً، فبعث الله عز وجل إليه بعوضة، فدخلت في منخره، حتى عضت على أم دماغه، فما كان يقر ولا يسكن حتى مات، فلما مات، شقوا رأسه فوجدوا البعوضة عاضة على أم دماغه، وارتحل من بقي من بني إسرائيل إلى الشام، وكثروا حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه، وكانت التوراة قد حرقت، وكان عزير من السبايا الذين كانوا ببابل، فلما رجع إلى الشام، جعل يبكي ليله ونهاره، وخرج عن الناس، فبينما هو كذلك، إذ جاءه ملك على صورة رجل فقال له: يا عزير ما يبكيك؟ قال: أبكي على كتاب الله وعهده الي لا يصلح ديننا وآخرتنا غيره، قال: أفتحب أن يرد إليك؟ ارجع فصم وتطهر وطهر ثيابك، ثم موعدك هذا المكان غداً ففعل، فأتى ذلك الرجل بإناء فيه ماء فسقاه من ذلك الماء، فمثلت التوراة في صدره، فرجع إلى بني إسرائيل، فأملاها لهم وعادت كما كانت، ورجعت بنو إسرائيل لكثرة الأحداث والمعاصي، يكذبون الأنبياء ويقتلونهم، وكان آخر من بعث إليهم: زكريا ويحيى وعيسى، فقتلوا زكريا ويحيى، وقصدوا إلى قتل عيسى، فرفعه الله، والسبب في قتل يحيى: أن ملك بني إسرائيل، كان يكرمه ويدني مجلسه، وأن الملك هوى بنت امرأته، وقيل بنت أخيه، فسأل يحيى تزويجها، فنهاه عن نكاحها، فبلغ ذلك أمها، فحقدت على يحيى، وعمدت حين جلس الملك من شرابه، فألبستها ثياباً رقاقاً حمراً، وطيبتها وألبستها الحلي، وأرسلتها إلى الملك، وأمرتها أن تسقيه، فإن هو راودها عن نفسها، أبت عليه حتى يعطيها ما تسأله، فسألته أن يأتيها برأس يحيى في طست ففعل. وفي الحديث: لا خير في الدنيا، فإن يحيى بن زكريا قتلته امرأة، فسلط الله عليهم ملكاً من ملوك بابل يقال له خردوش، فسار إليهم بأهل بابل، فدخل عليهم الشام، فلما ظهر عليهم، أمر رأساً من رؤساء جنوده يقال له بيروزاذن، فدخل بيت المقدس، فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم، فوجد فيها دماً يغلي، فسألهم عنه فقال: يا بني إسرائيل، ما شأن هذا الدم يغلي؟ أخبروني خبره، فقالوا: هذا دم قربان لنا قربناه فلم يقبل منا فلذلك يغلي، فقال: ما صدقتموني، وقتل منهم سبعمائة وسبعين روحاً، فلم يهدأ الدم، فأمر بسبعمائة غلام من غلمانهم، فذبحهم على الدم، فلم يهدأ، فقال لهم: يا بني إسرائيل، ويلكم اصدقوني قبل أن لا أترك منكم نافخ نار، من ذكر أو أنثى إلا قتلته، فأخبروه أنه دم يحيى بن زكريا، قال: الآن صدقتموني لمثل هذا ينتقم منكم ربكم، وآمن بالتوراة وقال لمن حوله: أغلقوا أبواب المدينة، وأخرجوا من كان هنا من جيش خردوش، ثم قال: يا يحيى بن زكريا، قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم، فأهدأ بإذن ربك، قبل أن لا أبقي من قومك أحداً، فهدأ الدم بإذن الله، ورفع القتل عن بني إسرائيل وقال لهم: إن خردوش أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكري، وإني لا أستطيع أن أعصيه، فأمرهم فحفروا خندقاً، وأتوا بالخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم، فأمر بذبحها حتى سال الدم في العسكر، وأمر بالقتلى الذين قتلوا قبل ذلك، فطرحوا على ما قتل من المواشي، فلم يظن خردوش، إلا أن ما في الخندق من دماء بني إسرائيل، فاكتفى بذلك وأمر برفع القتل، وهذه هي الواقعة الأخيرة التي أنزل الله فيها ﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾ الخ. ثم انتقل الملك بالشام ونواحيها، إلى الروم واليونانيين، إلا أن بدلوا وأحدثوا، فسلط الله عليهم ططوس بن اسبيانوش الرومي، فخرب بلادهم وطردهم عنها، ونزع الله منهم الملك والرياسة، وضرب عليهم الذلة، فليسوا في أمة إلا وعليهم الصغار والجزية، وبقي بيت المقدس خراباً، إلى خلافة عمر بن الخطاب، فعمره المسلمون بأمره اهـ.


الصفحة التالية
Icon