قوله: ﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً ﴾ كلام مستأنف قصد به التبكيت عليهم. والمعنى: كيف تعرضون عن كتاب فيه شرفكم وعزكم، لأنه بلسانكم وعلى لغتكم، فكان بمقتضى الحمية والعقل، أن تعظموا هذا الكتاب، وهذا النبي الذي جاء به، وتكونوا أول مؤمن به؛ فإعراضكم عنه دليل على عدم عقلكم. قوله: ﴿ فِيهِ ذِكْرُكُمْ ﴾ أي الثناء عليكم بالجميل، أو شرفكم ومواعظكم. وقوله: ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير أجهلتم فلا تعقلون أن الأمر كذلك؟قوله: ﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ ﴾ ﴿ كَمْ ﴾ خبرية مفعول مقدم لقصمنا، و ﴿ مِن قَرْيَةٍ ﴾ بيان لكم قوله: (أي أهلها) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، والمقصود من هذه الآية، تحذير الكفار من هذه الأمة، عن عدم الإيمان والرجوع عن الكفر، بأنهم لا يغرنهم سعة الدنيا عليهم، والتفاخر بالأموال والأولاد، كأن الله يقول لهم: لا تغتروا بذلك، فإننا أهلكنا كثيراً من أهل القرى الكفار، وما جرى عليهم يجري عليكم، وأهل القرى: قيل المراد بهم الأمم الماضية، كقوم نوح ولوط وصالح وشعيب وغيرهم، وقيل المراد بهم أهل قرية باليمن تسمى حضور بوزن شكور، بعث الله عليهم موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب نبياً قبل موسى بن عمران، فكذبوه وقتلوه، فسلط الله عليهم بختنصر، فقتل رجالهم وسبى نساءهم، فلما استمر فيهم القتل هربوا، فقالت الملائكة لهم استهزاء: لا تركضوا وارجعوا إلى مساكنكم وأموالكم، لعلكم تسألون شيئا من دنياكم، فإنكم أهل نعمة وغنى، فاتبعهم بختنصر وأخذتهم السيوف، ونادى منادي من جو السماء: يا ثارات الأنبياء، فلما رأوا ذلك أقروا بالذنوب، حيث لم ينفعهم، فعلى القول الأول كم واقعة على القرى، وعلى الثاني واقعة على أشخاص تلك القرية. قوله: (أي شعر أهل القرية) بفتح العين بمعنى علم، وأما بالضم فمعناه تكلم بالشعر ضد النثر قوله: (يهربون) أي فالركض كناية عن الهرب. قوله: (استهزاء بهم) جواب عما يقال: إن الملائكة معصومون من الكذب، فكيف يقولون لهم ذلك، مع علمهم بأنهم مهلكون عن آخرهم؟ فأجاب بأن هذا القول ليس على حقيقته، بل سخرية بهم على حد:﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ ﴾[الدخان: ٤٩].
قوله: ﴿ وَمَسَاكِنِكُمْ ﴾ بالجر عطفاً على ﴿ مَآ ﴾.
قوله: (شيئاً من دنياكم) أي فأنتم أهل سخاء وغنى تعطون الفقراء، وهذا توبيخ وتهكم بهم. قوله: (بالكفر) أي وقتل موسى.