ولما كان الأمر أمر تهكم وتعجيز أخبر أنهم ليسوا قادرين على المعارضة بقوله: ولن تفعلوا. وجاء بلن وإن كان الغالب أنها تدخل على الممكن تهكماً بهم على أنها ربما تدخل على الممتنع وعبر بالفعل عن الاتيان لأنه ما من شيء من الاحداث إلا يصح أن يعبر عنه بالفعل. وفي كتاب ابن عطية تعليل غريب لعمل لم الجزم. قال: وجزمت لم لأنها أشبهت لا في التبرئة في أنهما ينفيان وكما تحذف لا تنوين الاسم كذلك تحذف لم الحركة ولن تفعلوا إثارة لهممهم ليكون عجزهم بعد ذلك أبلغ وفيه دليل على إثبات النبوة إذ هو إخبار بالغيب ولم يقع من أحد معارضة أصلاً ولن تفعلوا جملة اعتراض لا موضع لها من الإِعراب. وقال الزمخشري: واقتران الفعل بلن في هذه الجملة دون لا وان كانتا أختين في نفس المستقبل، لأن في لن توكيد أو تشديد أتقول لصاحبك لا أقيم غداً. فإِن أنكر عليك قلت: لن أقيم غداً كما تفعل في أنا مقيم واني مقيم. " انتهى ". وهذا مخالف لما حكي عنه أنّ لن تقتضي التأبيد فيما نفي. وقال ابن خطيب: زملكاً لن تنفي ما قرب ولا يمتد النفي فيها وهذا يكاد يكون عكس قول الزمخشري وكون لن تقتضي التأكيد أو التأبيد أو نفي ما قرب أقوال متأخرين والرجوع ذلك لمستقرىء اللسان سيبويه ومن في طبقته قال سيبويه: لن نفي لقول سيفعل، ولا نفي لقول يفعل. " انتهى ". وهو نص على أنهما ينفيان المستقبل.﴿ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ﴾ جواب على الشرط الذي هو فإِن لم تفعلوا وكني به عن ترك العناد لأن من عاند بعد وضوح الحق له استوجب العقاب بالنار واتقاء النار من نتائج ترك العناد. قيل وعرّفت النار ووصفت بالتي وصلت لتقدم ذكرها في سورة التحريم إذ تلك الآية نزلت بمكة وهذه بالمدينة. وقرىء ﴿ وقودها ﴾ على أن يراد به الذي توقد به. ووقودها - بضم الواو - وهو مصدر أي ذووا وقودها أو جعلوا المصدر مبالغة وحكي المصدر بالفتح أيضاً وقرىء وقيدها أي موقودها.﴿ وَٱلْحِجَارَةُ ﴾ يناسب أن تفسر بالأصنام لقوله تعالى:﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾[الأنبياء: ٩٨].
أعدت للكافرين الكثير في لسان العرب ان الاعداد لا يكون إلا للموجود وهو التهيئة والارصاد. قال الشاعر: أعددت للحادثان سابغة وعداء علندا وقد تكون فلما هو في معنى الموجود كقوله تعالى:﴿ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾[الأحزاب: ٣٥].
قال ابن عطية في قوله: أعدت، رد على من قال بأن النار لم تخلق حتى الآن وهذا القول الذي سقط فيه منذر بن سعيد. " انتهى ". ولفظه للكافرين لا تدل على اختصاصهم بدخول النار وإنما نص تعالى عليهم لانتظام المخاطبين فيهم والجملة استئناف إخبار. وقال أبو البقاء في موضع: الحال من النار والعامل، واتقوا. " انتهى ". وجعلها حالاً لا يظهر إذ يصير المعنى فاتقوا النار في حال إعدادها للكافرين وهي معدة للكافرين اتقى هؤلاء النار أو لم يتقوها فيكون إذ ذاك حالا لازمة. والبشارة أول خبر يرد على الإِنسان وأكثر ما يستعمل في الخير، ولما ذكر الكفار ومآلهم ذكر مقابلهم المؤمنين ومآلهم لتكون الموعظة جامعة بين الوعيد والوعد والمأمور بالتبشير الرسول صلى الله عليه وسلم أو كل من تصح البشارة منه من غير تعيين. قال الزمخشري: وهذا أحسن وأجزل فإِنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة. " انتهى ". والوجه الأول عندي أولى لأن أمره عليه السلام بالبشارة مخصوصاً بها أفخم وأجزل وكأنه ما اتكل على أن يبشر المؤمنين كل سامع بل نص على أعظمهم وأصدقهم ليكون ذلك أوثق عندهم وأقطع في الاخبار بهذه البشارة العظيمة إذ تبشيره تبشير من الله تعالى والجملة من " وبشر " معطوفة على ما قبلها وليس الذي اعتمدت بالعطف عليه هو الأمر حتى يطلب مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه، إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والإِزهاق، وبشر عمراً بالعفو والاطلاق: قاله الزمخشري وتبعه أبو البقاء. وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون قوله: وبشر، معطوفاً على قوله: فاتقوا النار، ليكون عطف أمر على أمر. قال الزمخشري: كما تقول: يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم، وبشر يا فلان بني أسد بإِحساني إليهم. " انتهى ". وهذا خطأ لأن قوله: فاتقوا النار، جواب للشروط وموضعه الجزم والمعطوف على الجواب جواب ولا يمكن في قوله: وبشر، أن يكون جواباً لأنه أمر بالبشارة مطلقاً لا على تقدير فإِن لم تفعلوا، بل أمر أن يبشر الذين آمنوا أمراً ليس مترتباً على شيء قبله. وليس قوله: وبشر، على إعرابه مثل ما مثل به من قوله: يا بني تميم إلى آخره. لأن قوله: احذروا لا موضع له من الاعراب، بخلاف قوله: فاتقوا فلذلك أمكن فيما مثل به العطف ولم يمكن في: وبشر. وقرىء: وبشر ماضياً مبنياً للمفعول. قال الزمخشري: عطفاً على أعدت. " انتهى ". وهذا الاعراب لا يتأتى على قول من جعل أعدت جملة في موضع الحال، لأن المعطوف على الحال حال، وبشر لا يكون حالاً وبشر يتعدى إلى مفعول بنفسه وإلى آخر بحرف الجر وهو قوله: إن لهم جنات، وحذف منه الحرف وهو في موضع نصب على مذهب الخليل لا في موضع جر خلافاً لمن قال: مذهب الخليل انه في موضع جر وهو ابن مالك قاله في التسهيل وهو كان قليل الالمام بكتاب سيبويه وجاءت صلة الموصول بالماضي لا باسم فاعل دلالة على أن المستحق للتبشير بفضل الله من وقع فيه الإِيمان وتحقق به وبالعمل الصالح. و ﴿ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ ﴾ صفة جرت مجرى الأسماء فوليت العوامل فانتصبت على أنها مفعول به مألْ فيها للجنس لا للعموم، والظاهر أن من اقتصر على الإِيمان فقط دون العمل الصالح لا يكون مبشراً بالجنة من هذه الآية. والجنة: البستان الذي سترت أشجاره أرضه والنهر دون البحر وفوق الجدول وفتح الهاء اللغة العالية. وقال الزمخشري: الجنة: اسم لدار الثواب كلها وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاق العاملين لكل طبقة منهم جنة من تلك الجنان. " انتهى ". وقوله: على حسب استحقاق العاملين فيه دسيسة الاعتزال. واللام في لهم للاختصاص وتقديم الخبر هنا آكد من تقديم المخبر عنه لقرب عود الضمير على الذين آمنوا فهو أسر للسامع وليست من زائدة. ولا: بمعنى في، فإِن كانت الجنة الأشجار الملتفة ذوات الظل فلا حذف أو الأرض فعلى حذف أي من تحت أشجارها أو غرفها ومنازلها ومن لابتداء الغاية وأحسن أوصاف الجنة جريان الماء الذي هو كالروح لها لذلك لا يكاد يأتي ذكرها إلا مشفوعاً بجري الأنهار. وقال ابن عطية: نسب الجري إلى النهر وإنما يجري الماء وحده توسعاً وتجوز، كما قال:﴿ وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ﴾[يوسف: ٨٢].
وكما قال الشاعر: واستب بعدك يا كليب المجلس ثم ناقض فقال بعد ذلك بنحو من خمسة أسطار: والأنهار المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة. وأل في الأنهار للجنس. وقال الزمخشري: أو يراد أنهارها فعوّض التعريف باللام من تعريف الاضافة. كقوله تعالى:﴿ وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً ﴾[مريم: ٤].
" انتهى ". وهذا شيء قاله الكوفيون ولا تكون أل عند البصريين تنوب مناب الاضافة: قيل: أو تكون أل للعهد الثابت في الذهن من الأربعة المذكورة في سورة القتال. والجملة من قوله: ﴿ كُلَّمَا رُزِقُواْ ﴾ مستأنفة. لما ذكر تبشير المؤمنين بالجنة ووصفت بجري الأنهار تشوقت الجملة النفوس إليها وإلى ذكر حال المؤمنين فيها فبدأ بذكر ملاذها والأهم منها فقيل: كلما. وجعل الجملة صفة للجنان أو في موضع رفع على الابتداء مضمراً هي كلما أوهم كلما مرجوح لافتقارها في هذين الوجهين إلى موصوف أو إلى محذوف واستقلالها إذا كانت استئنافاً. وأجاز أبو البقاء أن تكون حالاً من الذين آمنوا أي مرزوقين على الدوام ولا يتم إلا إن كانت حالاً مقدرة لأنهم وقت التبشير لم يكونوا مرزوقين ولا قائلين هذا الذي رزقنا من قبل. والضمير في " منها " عائد على الجنات ومن ثمرة بدل اشتمال أعيد معه الجار. ومن لابتداء الغاية فيهما ويتعلقان برزقوا على جهة البدل. وجاز الزمخشري أن يكون من ثمرة بياناً قال على منهاج قولك: رأيت منك أسد. " انتهى ". وكون من للبيان ليس بمذهب للمحقين وقد تأولوا ما استدل به القائلون بأنّ من تكون للبيان. وعلى تقدير أن تكون من تأتي للبيان لا يتمشى هذا، لأن البيانية ان كان قبلها معرفة قدر مكانها مضمر صدر الموصول يكون كتلك المعرفة وإن كان قبلها نكرة قدر ضمير مكان من، ويكون ما دخلت عليه خبراً لذلك الضمير، وهذان التقديران تفسيراً معنى لا تفسير إعراب ولا يجيئان هذان التقديران هنا. وأما: رأيت منك أسداً، فمن لابتداء الغاية. إذ للغاية ابتداء وانتهاء، نحو: أخذته منك ولا يراد بالواحد الشخص الواحد من التفاح مثلاً، بل المراد والله أعلم: النوع من أنواع الثمار. وقال الزمخشري: وعلى هذا، أي على تقدير أن تكون بياناً يصح أن يراد بثمره النوع من الثمار والجنات الواحدة. " انتهى ". وهذا تقريع على أن من تكون بياناً. ورزقاً أي مرزوقاً وتبعه فيه المصدرية لقوله هذا " واتوا " وهذا الذي مبتدأ وخبر أي مثل الذي وحذف مثل لاستحكام الشبه حتى كان هذه العين تلك. ومن قبل متعلق برزقنا وهو مقطوع عن الإِضافة والتقدير من قبل المرزوق. وهذا (وقال) ابن عطية: هذا إشارة إلى الجنس أي هذا من الجنس الذي رزقناه من قبل. " انتهى ". فيصير التركيب هذا الجنس من هذا الجنس ولعل الناسخ صحف مثل بمن أي هذا الجنس مثل الجنس ومعنى قالوا أي قال بعضهم لبعض، وذلك على سبيل التذكر لنعم الله. وقيل: ذلك على سبيل التعجب يرزقون الثمرة ثم مثلها صورة والطعم مختلف فيتعجبون. " وأتوا " مبنيّ للمفعول والآتي بتلك الخدم والولدان. وقرىء وأتوا مبنياً للفاعل وهو إضمار الآتين دل عليه المعنى ألا ترى إلى قوله:﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ ﴾[الإنسان: ١٩].
الآية. والضمير في " به " عائد على الرزق الذي هو من الثمار كما أن هذا إشارة إليه. وقال الزمخشري: فإِن قلت: إلى (م) يرجع الضمير في قوله: وأتوا به؟ قلت: إلى المرزوق في الدنيا والآخرة لأن قوله: هذا الذي رزقنا من قبل انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين. " انتهى ". وهذا غير ظاهر بل الظاهر أن يعود به على المرزوق في الآخرة لأنه هو المحدث عنه والمشبه بالذي رزقوه من قبل مع أنه إذا فسرت القبلية بما في الجنة تعين عود الضمير إلى المرزوق في الجنة ولا سيما إذا أعربت الجملة من قوله: وأتوا حالاً، أي قالوا كذا وقد أتوا به، أو كانت معطوفة على قالوا: لأن ما في حيز كلما والعامل فيها مستقبل المعنى لأنها لا تخلو من معنى الشرط، أو كانت مستأنفة لأن هذه الجمل إنما جيىء بها محدّثاً عن الجنة وأحوالها وكونه مخبراً عن المرزوق في الدنيا والآخرة انه متشابه ليس من حديث الجنة إلا بتكلف. و ﴿ مُتَشَٰبِهاً ﴾ حال من الضمير في به، أي بالمرزوق في حال تشابهه وأطلق التشابه ولم يقيده وقيده المفسرون بمحتملات. وقال الزمخشري: إن ثمر الجنة متشابه بثمر الدنيا وأطال القول في ذلك والذي يظهر أن المتشابه فيه كونه يشابه بعضه بعضاً في أعلا غاية الجودة ليس فيه تنافر كما في ثمر الدنيا إذ تجد النوع الواحد مختلفاً في الجودة والرداءة اختلافاً كثيراً ويتباين حتى يساوي بعض النوع إضعاف ما يساوي بعضه ولما كانت مجامع اللذة في المسكن البهيّ والمشرب الرويّ والمطعم الشهيّ والمنكح الوضيّ ذكرها تعالى فيما بشر به المؤمنين وبدأ بالمسكن لأن به الاستقرار، ثم بالمشرب والمطعم لأن بهما قوام الجسم، ثم بالأزواج لأن لها تمام اللذة والأنس. فقال: ﴿ وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾ والأولى أن تكون جملة مستأنفة كما اخترنا في كلما لأن في جعلها استئنافا اعتناء بالجملة إذ سيقت كلاماً تاماً لا يحتاج إلى ارتباط صناعي. وأزواج مبتدأ ورفعه يدل على الاستئناف إذ لم يشرك مع جنات في العامل. والمراد بالأزواج القرناء من النساء اللاتي تختص بالرجل لا يشركه فيها غيره. ففي الحديث الصحيح ما يدل على كثرة الأزواج للرجل الواحد. وجاء أزواج جمع قلة لأن استعماله هو الكثير وهو المقيس في فعل المعتل العين وقد جمع زوج على زوجة جمع الكثرة لكن استعماله قليل وليس بالقياس. ومطهرة: صفة للأزواج مبنية على طهرت كالواحدة المؤنثة. وقرىء مطهرات على طهرن وبناؤه للمفعول أفخم إذاً فهم إن لها مطهراً وليس إلا الله تعالى وتطهيرهن من الأوصاف القبيحة في الخلق والخلق: وقرىء مطهرة وأصله متطهرة فادغم ولما ذكر مجامع اللذة أعقب بما يزيل تنغيص العيش بذكر الخلود. وظاهر اللغة ان الخلود هو البقاء الدائم الذي لا ينقطع. قال زهير: فلو كان حمد يخلد الناس لم تمت ولكن حمد الناس ليس بمخلد. والحياء تغير في الوجه يعتري من خوف لوم أو ذم، وضدّه الوقحة.. قيل لما ضرب تعالى المثل بالعنكبوت والذباب وغيرهما وسبق في هذه السورة ضرب المثل بالمستوقد والصيب أنكر بعض الكفار أن يكون الله تعالى يضرب الأمثال بهذه فنزلت:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً ﴾ واستحيا موافق للمجرد وهي حي بمعنى استحيا واستحا يستحي لغة تميمية واستحيا لغة حجازية. وأكثر نصوص أئمة النحو أن المحذوف في استحا في لغة تميم عين الكلمة فوزنه استغل. ومعنى لا يستحي: لا يترك، لأن الاستحياء محال حقيقة على الله تعالى والترك من ثمرة الحيا لأن من استحيا من شيء تركه وضرب الشيء مثلاً تصييره وقد عد بعض النحاة في باب ظننت ضرب مع المثل وغيره. قال المعنى وضع وبين. و " البعوضة ": حيوان معروف. والمشهور نصب بعوضة وقرىء بالرفع فالنصب على أن يكون صفة لما وصفت باسم الجنس وما بدل من مثلاً ومثلاً مفعول بيضرب أو عطف بيان من مثل أو بدلاً منه أو مفعولاً بيضرب ومثلاً حال من نكرة تقدمت عليها أو مفعولاً ثانياً ليضرب أو أول ليضرب ومثلاً ثانياً أو منصوباً على إسقاط الجار التقدير ما بين بعوضة فما فوقها. والذي نختاره أن مثلاً: مفعول يضرب، وما: صفة لمثلاً زادت النكرة شياعاً وبعوضة بدل واما الرفع أي رفع بعوضة فخبر مبتدأ على أن ما موصولة بمعنى الذي وهو بدل من مثلاً أو على أن يكون ما استفهاماً وبعوضة خبر ما أو خبر هو محذوفة، وما: زائدة أو صفة وهو بعوضة كالتفسير لما انطوى عليه الكلام السابق.﴿ فَمَا فَوْقَهَا ﴾ أي في العظم كالذباب والعنكبوت المضروب بهما المثل. وقيل: فما فوقها في الصغر أي يزيد عليها في قلة الحجم ولو أريد هذا المعنى لكان التركيب فما دونها.﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ جاءت الجملة باما لا بقوله: فالذين، لأن ما في حيز اما من الخبر كان واقعاً لا محالة ومفيدة أنه مترتب على ما تضمنته اما من الشرط والضمير في أنه عائد على المصدر المفهوم من يضرب أو على المصدر المفهوم من انتفاء الاستحياء أو على المثل وهو الظاهر. لقوله:﴿ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً ﴾ وأخبر تعالى عن المؤمنين بالعلم وهو الجزم المطابق بدليل، وعن الكافرين بالنطق اللساني، المتضمن لاستغراب الاستهزاء. وماذا اما استفهام كله ركب ذا مع ما فيكون منصوباً بأراد أيْ أيّ شيء أراد الله بهذا أو ما استفهام وهو مبتدأ، وذا موصول بمعنى الذي خبر عن ما والعائد محذوف وجعل ابن عطية هذين القولين مسألة اختلاف بين النحويين وليست كذلك بل كل من شذا شيئاً من علم العربية أجاز هذين الوجهين وعلى تجويزهما المعربون والمفسرون وانتصب مثلاً على التمييز المؤكد قيل أو الحال من اسم الاشارة أي ممثلاً به أو عن الفاعل أي ممثلاً وعن الكوفيين نصبه على القطع.﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ﴾ جملتان مستأنفتان جاريتان مجرى البيان والتفسير للجملتين السابقتين وجعل ذلك صفة لمثلاً بعيد جداً إذ يكون من كلام الكفار وإسناد الإِضلال إلى الله حقيقة. والزمخشري في مثل هذا على مذهب الاعتزال. وتجوز ابن عطية أن يكون يضل به كثيراً من كلام الكفار ويهدي به كثيراً من كلام الله تفكيك للكلام وهو غير ظاهر. وقرىء يضل به كثير ويهدي به كثير وما يضل به إلا الفاسقون مبنياً للمفعول وقرىء مبنياً للفاعل وياء المضارعة مفتوح ورفع الثلاثة وقرىء يضل بضم الياء وما يضل بفتح الياء ورفع الفاسقين. والضمير في به: عائد على المثل أي يضربه والفاسق الخارج عن طاعة الله تعالى.﴿ ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ ﴾ صفة للفاسقين صفة ذم لازمة أو نصب على الذم أو رفع على هم الذين، وإعرابها مبتدأ، والخبر جملة أولئك.﴿ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ ﴾ استئناف لا تعلق له بما قبله والظاهر تعلقه بما قبله. وكل فاسق ناقص لعهد الله قاطع ما أمره بوصله ثم لما وصفه بهذا أخبر بخسرانه. وعهد الله تعالى هو ما ضمنه تعالى في كتبه المنزلة وعلى ألسنة أنبيائه من أمره بطاعته ونهيه عن معصيته وإقراره بالعباد والميثاق وفعال من الوثاقة والأصل في مفعال أن يكون صفة كمعطار أو آلة كمحراث. وظاهر كلام الزمخشري وابن عطية: أنه اسم بمعنى المصدر أو أنه مصدر. قال الزمخشري: بمعنى التوثقة كما أن الميعاد بمعنى الوعد، والميلاد بمعنى الولادة. وقال ابن عطية: اسم في معنى المصدر كما قال: اكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك أي إعطائك ولا نعلم مفعالاً جاء مصدراً ولا عدوه في أبنيته والضمير في ميثاقه عائد على العهد وقيل على الله. وقال أبو البقاء: إن أعدته إلى الله كان المصدر مضافاً إلى الفاعل، وإن كان أعدته إلى العهد كان مضافاً إلى المفعول، وما بمعنى الذي عامة في كل ما أمر الله بوصله. وأمر حذف مفعوله الذي يتعدى إليه بنفسه أي ما أمرهم. وبه: عائد على ما وأن يوصل بدل منه أي بوصله وإعرابه بدلاً من ما أو مفعولاً من أجله تقديره كراهية أن يوصل أو تقديره لئلا يوصل أو خبر مبتدأ تقديره هو أن يوصل أعاريب ضعيفة وإن كانت منسوبة لمشهورين. والفساد في الأرض ناشىء عما تقدم من الأوصاف الذميمة وبدا في ترتيب هذه الصلات. أولاً بنقض العهد وهو أخص، ثم يقطع ما أمر الله بوصله وهو أعم. من نقض العهد ثم بالافساد في الأرض وهو أعم من القطع، وكلها ثمرات الفسق. وجاء بالفسق في صلة أل مشعراً بالثبوت وهذه الصلات بالمضارع مشعرة بالتجدد ثم أشار إلى من جمع هذه الأوصاف وأخبر عنه بالخسران بفوات المثوبة ولزوم العقوبة.