﴿ هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي ٱلأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ ﴾ أي على ما يشاء من الهيآت ودل على كمال العلم والقدرة ودل على كينونة عيسى عليه السلام من الذين صورهم في الأرحام فانتفت عنه الإِلهية وفيه رد على الطبيعيين إذ يجعلون لطبيعة فاعلة مستبدة كيف يشاء مفعول يشاء محذوف وكيف جزاء وفعل الشرط محذوف والتقدير على أي هيئة شاء أن يصوركم صوركم وكيف منصوب على الحال وحذف صوركم هنا لحذف الجزاء في نحو أنت ظالم إن فعلت أي إن فعلت فأنت ظالم ولا محل للجملة في مثل هذا وان كان لها تعلق بما قبلها من حيث المعنى وتفكيك مثل هذا التركيب لا يهتدي إليه إلا بعد تمرن في الاعراب واستحضار للطائف النحو وقد خبطوا في إعراب هذه الجملة بما يوقف عليه في الهجر.﴿ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾ تأكيد لما قبلها من الإِنفراد بالإِلهية والغلبة والحكمة وفي ذكر الحكيم إشارة إلى التصوير وضع الأشياء على ما اقتضته الحكمة ولما كان أولئك الوفد قد ذكروا للرسول صلى الله عليه وسلم ان في كتابه وروح منه أي في حق عيسى أخبر تعالى أن آيات الكتاب منها محكمة ومتشابهة والمحكم ما لم يتشابه كآيات الحلال والحرام ولا يحتمل إلا وجهاً واحداً والمتشابهة ما احتمل من التأويل وجوهاً.﴿ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ ﴾ أي الأصل الذي يرجع إليه.﴿ وَأُخَرُ ﴾ أي وآيات أخر أي غير تلك.﴿ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ وقد اختلف المفسرون في المحكم والمتشابه اختلافاً كثيراً وارتفع آيات على الفاعلية إذ المجرور معتمد أو على الابتداء.﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾ أي ميل عن الحق كالنصارى واليهود من صرف كلام الله ممن ينتمي إلى ملة الإِسلام كالإِباحية والقائلين بالتناسخ وعلم الحروف والمجسمة وغلاة الباطنية والقائلين بالحلول والوحدة من المتظاهرين بذلك في كتبهم وكل من زاغ عن الحق بالتعلق بشيء من المتشابه وعلل اتباع أهل الزيغ المشابه بعلتين إحداهما.﴿ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ ﴾ أي فتنة أهل الإِسلام بالاضطراب والثانية.﴿ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ وكلاهما مذموم ثم ذكر تأويله المتشابه فقال:﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ ﴾ بالوقف على لفظ الجلالة وهذا هو الظاهر فيكون قوله:﴿ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ ﴾ إبتداء كلام وخبره قوله:﴿ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ﴾ ومن عطف والراسخون على الجلالة فجعلهم يعلمون التأويل فليس بظاهر وعلى قولهم يكون يقولون جملة في موضع الحال من الراسخين والضمير في به عائد في الظاهر على التأويل ويجوز أن يعود على الكتاب محكمة ومتشابهة لأن الإِيمان بهما حاصل وقوله:﴿ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾ أي كل من المحكم والمتشابه.﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ ﴾ أي ما يتعظ بالمحكم والمتشابه.﴿ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ ﴾ أي ذوو العقول السليمة الناظرون في وجوه التأويلات والاحتمالات الحاملون ذلك على ما اقتضاه لسان العرب من الحقيقة والمجاز والنظر فيما يجوز وما يجب وما يستحيل وانتصاب.﴿ رَبَّنَا ﴾ على النداء فجاز أن يكون من قول الراسخين وجاز أن يكون على إضمار قولوا ربنا ويكون قوله:﴿ لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا ﴾ أي لا تجعلنا من الذين في قلوبهم زيغ.﴿ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾ وأضاف بعد إلى إذ وإذا إلى الجملة بعدها والمعنى بعد وقت هدايتك إيانا وختم بقوله:﴿ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْوَهَّابُ ﴾ إشارة بأن جميع ما يحصل من الخيرات هو هبة من الله لهم وجاء بصيغة المبالغة ليدل على كثرة هباته تعالى وناسب الفواصل في قوله قبل الألباب وقرىء: لا تزغ قلوبنا، مبيناً للفاعل بتاء المضارعة ويائها لما سألوه تعالى أن لا يزيغ قلوبهم بعد الهداية وكانت ثمرة انتفاء الزيغ والهداية إنما تظهر في يوم القيامة أخبروا أنهم موقنون بيوم القيامة والبعث فيه للمجازاة وان اعتقاد صحة الوعد به هو الذي حملهم على سؤال ان لا تزيغ قلوبهم.﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ ﴾ عدل من ضمير الخطاب إلى الاسم الظاهر وهو الله ولم يأت التركيب إنك لا تخلف الميعاد دلالة على الاستئناف وأنه من كلام الله تعالى لا من كلام الراسخين وقد يكون قوله: " ان الله " من باب الالتفات عدلوا من الخطاب إلى الغيبة لما في ذكره باسمه الأعظم من التفخيم والتعظيم والهيبة.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ عام في الكفار من وفد نجران وغيرهم.﴿ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ أي من عذابه وكانوا يتكاثرون بأموالهم وأولادهم ثم ذكر مآلهم في قوله: ﴿ وَأُولَـٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ ﴾.
جعلهم كالوقود الذي يضرم به النار. قال الزمخشري: من الله شيئاً مثله في قوله ان الظن لا يغني من الحق شيئاً، والمعنى: لن تغني عنهم من رحمة الله أو من طاعة الله شيئاً، أي بدل رحمة الله وطاعة وبدل الحق ومنه ولا ينفع ذا الجد منك الجد أي لا ينفعه جده وحظه من الدنيا بذلك أي بدل طاعتك وعبادتك وما عندك وفي معناه قوله تعالى:﴿ وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ ﴾[سبأ: ٣٧] انتهى. وإثبات البدلية بمنى فيه خلاف أصحابنا ينكرونه وغيرهم قد أثبته وزعم أنها تأتي بمعنى البدل واستدل بقوله تعالى:﴿ أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ ﴾[التوبة: ٣٨] لجعلنا منكم ملائكة أي بدل الآخرة وبدلكم وقال الشاعر: أخذوا المخاض من الفصيل غلبة   ظلماً ويكتسب للأميرا فالا أي بدل الفصيل وانتصاب شيئاً على المصدر أي شيئاً من الاغناء وقرىء: لن تغني بسكون الياء وهي لغة كثيرة في الشعر وقرىء: لن يغني وانتقل من الأموال إلى الأولاد لأن الأولاد بهم التناصر والكثرة والعزة.﴿ وَأُولَـٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ ﴾ معطوف على خبر ان وهو لن تغني أو مستأنف وقرىء: وقود بضم الواو مصدر وقد يقد وقد نقل ان الوقود بفتح الواو مصدر كالوقود بضمها.﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ أي كدأب الكفار المتقدم ذكرهم في مآلهم إلى النار مثل آل فرعون إلى النار فهو خبر مبتدأ محذوف أي دأبهم كدأب آل فرعون والمكذبين ونص على آل فرعون لعظيم مرتكبه في دعوى الإِلهية ولمعرفة بني إسرائيل بما جرى له.﴿ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ كأمة شعيب وصالح وهود نوح.﴿ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ تفسير لدأبهم كتكذيب كفار معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال: دأب ودأب ومعناه العادة.﴿ قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ هم معاصروه عليه السلام وفي سبب نزولها اختلاف قيل أن يهود بني قينقاع قالوا بعد وقعة بدر ان: قريشاً كانوا أغمار ولو حاربتنا لرأيت رجالاً وناسب ما سبق من الوعد الصادق في قوله فيما آله إليه الكفار السابق ذكرهم في أخذ الله إياهم ومآلهم إلى النار هذا الوعد الصادق في قوله:﴿ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ ﴾ الآية، وقرىء: بالتاء وبالياء فيهما والمخصوص بالذم محذوف أي وبئس المهاد جهنم والخطاب في قوله:﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ ﴾ للمؤمنين والآية العلامة التي قد ظهرت في وقعة بدر وهي غلبة المؤمنين للكافرين حسب الوعد الصادق في قوله: " ستغلبون ". والفئة الجماعة من فاء يفيء رجع و:﴿ ٱلْتَقَتَا ﴾ جملة في موضع الصفة للفئتين ثم فصل الفئتين في قوله:﴿ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ وصح الابتداء بالنكرة لأنه في موضع تفصيل وثم صفة محذوفة تقديرها فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله.﴿ وَأُخْرَىٰ ﴾ معطوف على فئة وثم صفة محذوفة تقديرها وأخرى كافرة تقاتل في سبيل الطاغوت كما قال:﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ ﴾[النساء: ٧٦].
فحذف من الجملة الأولى ما أثبت مقابلة في الجملة الثانية ومن الثانية ما أثبت مقابله في الأولى وقرىء فئة بالجر على البدل من الفئتين وهو بدل تفصيل وقرىء: فئة بالنصب على المدح أي أمدح فئة وأخرى كافرة بالنصب على الذم أي وأذم أخرى وزعم الزمخشري أي نصب فئة على الانتقاص وليس بجيد لأن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهماً وأجاز هو وغيره قبله كالزجاج أن ينتصب فئة الحال من الضمير وهي حال موطئة وقرىء يقاتل بالياء على تذكير الفئة لأن معناها القوم وقرىء:﴿ ترونهم ﴾ بالتاء وبالياء مفتوحتين ومضمومتين فضمير الرفع للمؤمنين وضمير النصب للكافرين وكذلك ضمير الجر في.﴿ مِّثْلَيْهِمْ ﴾ أي يرى المؤمنون الكافرين مثل الكافرين فالمؤمنون أقل من الكافرين ومع ذلك وقع النصر كما قال تعالى:﴿ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ﴾[البقرة: ٢٤٩] ويدل على هذا قوله:﴿ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ ﴾ والرؤية هنا من رؤية البصر يدل عليه قوله: ﴿ رَأْيَ ٱلْعَيْنِ ﴾ والتأييد التقوية وكان المسلمون في وقعة بدر ثلاثمائة عشر وثلاثة عشر والكفار نحو الألف.﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ ﴾ أي في تلك الآية، من غلبة المؤمنين على قلتهم للكافرين على كثرتهم.﴿ لَعِبْرَةً ﴾ أي لاتعاظاً و:﴿ ٱلأَبْصَارِ ﴾ قد تكون من بصر العين أو من بصيرة القلب ومفعول يشاء محذوف أي من يشاء نصره وقرىء:﴿ زُيِّنَ ﴾ مبنياً للفاعل وهو عائد على الله تعالى ذكر تعالى ما جبل عليه طباع الناس من حب الدنيا وما فيها من متاعها وأضاف.﴿ حُبُّ ﴾ وهو مصدر إلى المفعول وهو.﴿ ٱلشَّهَوَاتِ ﴾ والفاعل محذوف أي حبهم للشهوات والشهوة مسترذلة يذم متبعها والشهوات عام بينت بما بعدها فبدأ بالنساء ولا شيء أعظم منهن في الشهوة ثم بما يتولد منهم وهم البنون ثم بما يتم به حال المشتهي من الذهب والفضة ثم بالخيل لأنه فيها عزة وقدرة على الامتناع ثم بالانعام لأنها كانت أكثر مراكبهم وأكثر مشروبهم منها ثم بالحرث إذ فيه تحصيل أقواتهم والقنطار مختلف في عدده والظاهر المبالغة فيما يملكه الانسان من العينين والمقنطرة صفة للقناطير ويراد به الكثرة وجاء هذا التركيب في أحسن أسلوب من تعلق النفس بما ذكر والإِشارة بقوله:﴿ ذٰلِكَ ﴾ إلى ما تقدم ذكره من المحبوبات. و ﴿ مَتَاعُ ﴾ أي ما يتمتع به ثم يزول. و ﴿ ٱلْمَآبِ ﴾ المرجع وهو الجنة للمؤمنين.﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ ﴾ أي بخير مما تقدم ذكره من متاع الدنيا لأن ذلك فان وهذا باق لما أبهم في قوله بخير من ذلكم عين جهة الخيرية بقوله:﴿ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ ﴾ وقرىء: بخفض جنات فجاز أن يكون بدلاً من قوله: ﴿ بِخَيْرٍ ﴾ ويكون قوله: ﴿ لِلَّذِينَ ﴾ متعلقاً بقوله بخير فلا يكون استئناف كلام بخلاف رفع جنات فإِنه مبتدأ وللذين خبره والكلام مستأنف جواب كلام مقدر كأنه قيل ما الخير فقيل للذين اتقوا عند ربهم جنات ونبأ هنا تعدت إلى اثنين أحدهما بنفسه والآخر بحرف الجر وبدأ بمقر المتقين وهي جنات وذكر من صفاتها أنها تجري من تحتها الأنهار ثم بالأزواج اللائي هن من أعظم الشهوات إذ ذكر في الآية قبلها حب الشهوات من النساء ووصفهن بالتطهير من دم الحيض وغيره واتبع ذلك بأعظم الأشياء وهو رضاه عنهم فانتقل من عال إلى أعلى منه.﴿ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ ﴾ أي مطلع على أعمالهم فيجازى كلاً بعمله ولما ذكر المتقين ذكر شيئاً من صفاتهم فبدأ بالإِيمان الذي هو رأس التقوى ورتب سؤال المغفرة عليه والوقاية من النار ولما ذكر الإِيمان بالقول أخبر بالوصف الدال على حبس النفس على ما هو شاق عليها من التكاليف.﴿ وَٱلْمُنْفِقِينَ ﴾ أموالهم في الطاعات.﴿ وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ ﴾ الله لذنوبهم.﴿ بِٱلأَسْحَارِ ﴾ وهي أوقات الإِجابة ألا ترى إلى قوله سبحانه وتعالى:" من يدعوني فأستجيب له "في حديث النزول قال الزمخشري: والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها " انتهى ". ولا نعلم العطف في الصفة بالواو ويدل على الكمال.


الصفحة التالية
Icon