﴿ وَلْتَكُن مِّنْكُمْ ﴾ الظاهر أنه خطاب للمخاطبين قبله ومنكم يقتضي التبعيض ويندرج في الخطاب جميع المؤمنين والمراد بالأمة الآمرة والناهية من يتعين لصلاحية ذلك ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يكون إلا لمن علم المعروف والمنكر وكيف يترتب الأمر في إقامته وكيف يباشره فإِن الجاهل ربما أمر بمنكر ونهى عن معروف. وقد رأينا من ينتمي للصلاح يأمر أصحابه بالاجتماع لمغن شاب يغني لهم بالتغزلات والمحون وينافخ في قصبة يخرج منها أصوات فيتلذذون بذلك ويرقصون ويدور أحدهم مائة دورة وأكثر منها ويجعل أذنه عند القصبة والمغني ويتفتل في رقصه ويمشي على جنبه ملاصقاً إلى الأرض من أول الإِيوان إلى آخره ويشهد ذلك الجم الغفير والجمع الكثير ممن ينتمي إلى الإِسلام فلا ينكر أحد منهم شيئاً من ذلك وهو من أعظم المنكرات.﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ ﴾ قال ابن عباس: هم الأمم السالفة التي تفرقت في الدين و:﴿ ٱلْبَيِّنَاتُ ﴾ قال ابن عباس: آيات الله التي أنزلت على أهل كل ملة.﴿ وَأُوْلَـٰئِكَ ﴾ إشارة إلى الذين تفرقوا.﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ ﴾ البياض عبارة عن إشراقها ونورها وبشرها برحمة الله والسواد عبارة عن ظلمتها وكمدها وخص الوجه لأنه أشرف ما في الإِنسان وإن كان البياض والسواد يعمان جميع البدن ويجوز أن يراد بالبياض والسواد حقيقتهما ويوم ظرف والعامل فيه العامل في لهم أي كائن لهم عذاب عظيم يوم تبيض.﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ﴾ هذا تفصيل لأحكام من تبيض وجوههم وتسود وابتدأ بالذين اسودت للاهتمام بالتحذير من حالهم ولمجاورة قوله وتسود وجوه والابتداء بالمؤمنين والاختتام بحكمهم وللعرب في مثل هذا طريقان أحدهما: انه إذا فصل شيء بشيء أو حكم بحكم وإن لم يكن تفصيلياً يجعل الآخر للأول والآخر أن يجعل الأول من السابقين للأول من الآخرين، والثاني للثاني كقوله تعالى:﴿ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ﴾[هود: ١٠٥] ثم قال:﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ ﴾[هود: ١٠٦] وقال بعد:﴿ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ ﴾[هود: ١٠٨] وفي البحر فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم الخبر محذوف للعلم به والتقدير فيقال لهم.﴿ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ تقديره فيقال لهم: أكفرتم كما حذف القول في مواضع كثيرة كقوله تعالى:﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم ﴾[الرعد: ٢٣ـ٢٤] ولما حذف الخبر حذفت الفاء وإن كان حذفها في غير هذا لا يجوز، إلا في الشعر، وقال الشيخ كمال الدين عبد الواحد بن عبد الله بن خلف الأنصاري في كتابه الموسوم " نهاية التأميل في أسرار التنزيل ": قد اعترض على النحاة في قولهم لما حذف يقال: حذفت الفاء بقوله تعالى:﴿ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾[الجاثية: ٣١] تقديره فيقال لهم أفلم تكن آياته تتلى عليكم فحذف فيقال ولم تحذف الفاء فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب.﴿ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ فوقع ذلك جواباً له ولقوله: أكفرتم؟ ومن نظم العرب إذا ذكروا حرفاً يقتضي جواباً له أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفاً آخر يقتضي جواباً ثم يجعلون لهما جواباً واحداً كما في قوله تعالى:﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾[البقرة: ٣٨].
فقوله: فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. جواب الشرطين معاً وليس أفلم جواب أما بل الفاء عاطفية على مقدر والتقدير أأهملتكم فلم أتل عليكم آياتي، " انتهى " ما نقل عن هذا الرجل وهو كلام أديب لا كلام نحوي. أما قوله: قد اعترض. على النحاة فيكفي في بطلان هذا اعتراض على جميع النحاة لأنه ما في نحوي إلا خرج الآية على إضمار، فيقال لهم: أكفرتم؟ وقالوا: لا يستغني المعنى عنه، والقول بخلافه مخالف للإِجماع فلا التفات إليه فأما ما اعترض به من قوله:﴿ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾[الجاثية: ٣١] وان تقديره فيقال لهم: أفلم تكن آيات فحذف فيقال ولهم ولم تحذف الفاء مذل على بطلان هذا التقدير فليس بصحيح، بل هذه الفاء التي بعد الهمزة في أفلم ليست فاء فيقال: التي هي جواب. أما حتى يقال: حذف. فيقال: وبقيت الفاء بل الفاء هي جواب، أما ويقال بعدها محذوف، وفاء أفلم تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون زائدة وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قول الشاعر: يموت أناس أو يشيب فتاهم ويحدث ناس والصغير فيكبروقول الآخر: لما اتقى بيد عظيم جرمها فتركت ضاحي جلدها يتذبذبيريد تركت. وقال الزهر: أراني إذ ما بت على هوى فثم إذا أصبحت غاديايريد ثم وقال الأخفش: وزعموا أنهم يقولون: أخوك فوجد يريد أخوك وجد والثاني أن تكون الفاء تفسيرية وتقدير الكلام فيقال لهم ما يسؤهم فألم تكن آياتي، ثم اعتنى بهمزة الاستفهام فقدمت على الفاء التفسيرية كما تقدم على الفاء التي للتعقيب في نحو قوله تعالى:﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾[يوسف: ١٠٩، الحج: ٤٦] وهذا على مذهب من يثبت ان الفاء تكون تفسيرية نحو توضأ زيد فغسل وجهه ويديه إلى آخر أفعال الوضوء فالفاء هنا ليست مرتبة. وإنما هي مفسرة للوضوء وكذلك تكون في أفلم تكن آياتي تتلى عليكم، مفسرة للقول الذي يسؤهم وقول هذا الرجل فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب فذوقوا أي تعين بطلان ما قدره النحويون من قوله: فيقال لهم لوجود هذه الفاء في أفلم تكن وقد بينا أن ذلك التقدير لم يبطل وأنه سواء في الآيتين، وإذا كان كذلك فالجواب: اما هو فيقال ومعنى الكلام عليه وأما تقديره أأهملتكم فلم تكن آياتي فهذه نزعة زمخشرية تقدر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فعلاً يصح عطف ما بعدها عليه ولا يعتقدان الفاء والواو وثم إذا دخلت عليها الهمزة أصلهن التقديم على لكن اعتنى بالاستفهام فقد على حروف العطف كما ذهب إليه سيبويه وغيره من النحويين وقد رجع الزمخشري أخيراً إلى مذهب الجماعة في ذلك وبطلان قوله الأول مذكور في النحو. وقد تقدم في هذا الكتاب حكاية مذهبه في ذلك وعلى تقدير قول هذا الرجل أأهملتكم فلا بد من إضمار القول وتقديره، فيقال: أأهملتكم لأن هذا المقدر هو خبر المبتدأ والفاء جواب أما، وهو الذي يدل عليه الكلام ويقتضيه ضرورة. وقول هذا للرجل فوقع ذلك جواباً له ولقوله: " أكفرتم " يعني: ان فذوقوا العذاب جواب لا ما ولقوله: " أكفرتم ". والاستفهام هنا لا جواب له إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والارذال بهم، وأما قول هذا الرجل ومن نظم العرب إلى آخره فليس كلام العرب على ما زعم بل يجعل لكل جواب ان لا يكن ظاهر أفمقل ولا يجعلون لهما جواباً واحداً. وأما دعواه ذلك في قوله تعالى:﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ﴾[البقرة: ٣٨]، الآية، وزعمه أن قوله تعالى:﴿ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾[البقرة: ٣٨] جواب للشرطين فقول روي عن الكسائي وذهب بعض الناس إلى أن جواب الشرط الأول محذوف تقديره فاتبعوه والصحيح أن الشرط الثاني وجوابه هو جواب الشرط الأول وتقدمت هذه الأقوال الثلاثة عند الكلام على قوله تعالى:﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم ﴾[البقرة: ٣٨] الآية، وهذا سؤال توبيخ وتعنيف بعد إيمانكم ظاهره ان كفرهم كان بعد حصول إيمانهم وليس كل كافر كذلك والمراد والله أعلم، بعد أن ولدتم على الفطرة المتهيئة لقبول الإِيمان أو الإِيمان المراد به في قوله:﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ ﴾[الأعراف: ١٧٢].
﴿ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ ﴾ أنظر تفاوت ما بين القسمين هناك جمع لمن اسودت وجوههم بين التعنيف بالقول والعذاب، وهنا جعلهم مستقرين في الرحمة، فالرحمة ظرف لهم وهي شاملتهم ولما أخبر تعالى أنهم مستقرون في رحمة الله بين أن ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود لا زوال منه ولا انتقال، وأشار بلفظ الرحمة إلى سابق عناية بهم وان العبد وإن كثرت طاعته لا يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى. وقال ابن عباس: المراد بالرحمة هنا الجنة وذكر الخلود للمؤمن ولم يذكر ذلك للكافر إشعاراً بأن جانب الرحمة أغلب وأضاف الرحمة هنا إليه ولم يضف العذاب إلى نفسه بل قال: فذوقوا العذاب، ولما ذكر العذاب علله بفعلهم ولم ينص هنا على سبب كونهم في الرحمة وهو توكيد لقوله: الذين، وفيها توكيد لقوله: ففي رحمة الله. وقرىء: اسوادت وابياضت بألف.﴿ تِلْكَ ﴾ إشارة إلى الآية التي نزلت في أمر الأوس والخزرج وما قبلها. و ﴿ نَتْلُوهَا ﴾ خبر ثان أو جملة في موضع الحال وقرىء: يتلوها بالياء.﴿ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ فما وقع منه تعالى من تنعيم قوم وتعذيب آخرين ليس من باب الظلم، والظلم وضع الشيء في غير موضعه ونكر ظلماً وهو في سياق النفي يعم وهو مصدر حذف تقديره ظلمه للعالمين وللعالمين في موضع المفعول.