﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾ هي من تمام الخطاب الأول في قوله:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾[آل عمران: ١٠٢] وتوالت جعل هذا مخاطبات المؤمنين من أوامر ونواه وكان قد استطرد من ذلك لذكر من يبيض وجهه ويسود وشيء من أحوالهم في الآخرة ثم عاد إلى الخطاب الأول فقال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾.
تحريضاً بهذا الاخبار على الانقياد والطواعية والظاهر أن الخطاب هو لمن وقع الخطاب له أولاً وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتناول من يجيء بعدهم ممن يتصف بأوصافهم واللام في الناس متعلقة بأخرجت وقيل بخير وهو الأحسن. و ﴿ تَأْمُرُونَ ﴾ ما بعده تفسير للخيرية التي في قوله: خير أمة، قال الزمخشري: كان عبارة عن وجود الشيء في زمن ماض على سبيل الإِبهام، وليس فيه دليل على عدم سابق، ولا على انقطاع طارىء ومنه قوله تعالى:﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾[النساء: ٩٦].
ومنه قوله: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾ كأنه قيل وجدتم خير أمة، " انتهى ". فقوله: انها لا تدل على عدم سابق هذا إذا لم تكن بمعنى صار فإِذا كانت بمعنى صار دلت على عدم سابق، فإذا قلت: كان زيد عالماً بمعنى صار دلنا على أنه انتقل من حالة الجهل إلى حالة العلم وقوله: ولا على انقطاع طارىء الصحيح انها كسائر الأفعال، ثم قد تستعمل حيث لا يراد الانقطاع، وفرق بين الدلالة والاستعمال ألا ترى أنك تقول هذا اللفظ يدل على العموم، ثم يستعمل حيث لا يراد العموم بل المراد الخصوص. وقول الزمخشري كأنه قال: وجدتم خير أمة هذا يعارض أنها مثل قوله: وكان الله غفوراً رحيماً لأن تقديره وجدتم خير أمة يدل على أنها تامة وان خير أمة حال، وقوله: وكان الله غفوراً، لا شك أنها هنا الناقصة، فتعارضا وخير مضاف للنكرة وهي أفضل، فيجب أفعل تفضيل فيجب إفرادها وتذكيرها وإن كانت جارية على جمع والمعنى أن الأمم إذا فضلوا أمة كانت هذه الأمة خيرها وحكم عليهم بأنهم خير أمة، ولم يبن جهة الخيرية في اللفظ وهي سبقهم إلى الإِيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وبدارهم إلى نصرته ونقلهم عن علم الشريعة وافتتاحهم البلاد وهذه فضائل اختصوا بها مع ما لهم من الفضائل وكل من عمل بعدهم حسنة فلهم مثل أجرها لأنهم سبب في إيجادها إذ هم الذين سنوها وأوضحوا طريقها من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً.﴿ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ أي ولو آمن من عامتهم وسائرهم، ويعني الإِيمان التام النافع واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من آمن من كما تقول من صدق كان خيراً له، أي: لكان هو أي الإِيمان وعلق كينونة الإِيمان خيراً لهم على تقدير حصوله توبيخاً لهم مقروناً بنصحه تعالى لهم. إذا لو آمنوا لنجوا أنفسهم من عذاب الله وخيراً هنا أفضل التفضيل والمعنى: لكان خيراً لهم مما هم عليه لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإِسلام حب في الرياسة واستتباع العوام فلهم في هذا حظ دنيوي، وإيمانهم يحصل به الحظ الدنيوي من كونهم يصيرون رؤساء في الإِسلام، والحظ الاخروي الجزيل بما وعدوه على الإِيمان في إيتائهم أجرهم مرتين.﴿ مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ كعبد الله بن سلام وأخيه وثعلبة بن سعيد ومن أسلم من اليهود كالنجاشي وبحيرا من أسلم في النصارى إذ كانوا مصدقين برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وبعده وعلى هذا يكون أهل الكتاب ليس عاماً إذ قد وجد الإِيمان من بعضهم.﴿ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى ﴾ هاتان الجملتان تضمنتا الاخبار بمعنيين مستقبلين وهو أن ضررهم إياكم لا يكون إلا أذى أي شيئاً تتأذون منه لا ضرراً يكون فيه غلبة واستئصال ولذلك ان قاتلوكم خذلوا وبصرتم، وكلا هذين الامرين وقع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأضرهم أحد من أهل الكتاب ضرراً يبالون به ولا قصدوا جهة كافر إلا كان النصر لهم والغلبة عليهم إلا أذى استثناء متصل وهو يفرغ من المصدر المحذوف والتقدير لمن يضروكم إلا ضرراً يسيراً لا نكاية فيه ولا إجحاف.﴿ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾ هذا استئناف إخبار انهم لا ينصرون أبداً ولم يشرك في الجزاء فيجزم لأنه ليس مترقباً على الشرط بل التولية مترتبة على المقاتلة والنصر منفي عنهم أبداً سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا إذ تبع النصر سببه الكفر فهي جملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء كما أن جملة الشرط والجزاء معطوفة على أن يضروكم إلا أذى وليس امتناع الجزم لأجل ثم كما زعم بعضهم زعم أن جواب الشرط يقع عقيب المشروط، قال: وثم للتراخي فلذلك لم تصلح لجواب الشرط والمعطوف على الجواب كالجواب وما ذهب إليه هذا الذاهب خطأ لأن ما زعم أنه لا يجوز قد جاء في أفصح الكلام. قال تعالى:﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾[محمد: ٣٨] ثم لا يكونوا أمثالكم فحزم المعطوف ثم على جواب الشرط وثم هنا ليست للمهلة في الزمان وإنما هي للتراخي في الاخبار، فالإِخبار بتوليهم في القتال وخذلانهم والظفر بهم أبهج وأسر للنفس ثم أخبر تعالى بعد ذلك بانتفاء النصر عنهم مطلقاً.﴿ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ ﴾ عام في الأمكنة وهو شرط وجوابه محذوف يدل عليه ما قبله ومن أجاز تقديم جواب الشرط، قال: ضربت جواب الشرط.﴿ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ ظاهره انه استثناء منقطع قاله الفراء والزجاج، واختاره ابن عطية، وقال: لأن بادىء الرأي يعطي أن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضربت الذلة وليس الأمر كذلك وإنما في الكلام مذوق يدركه فهم السامع الناظر في الأمور وتقديره في آيتنا فلا نجاة من الموت إلا بحبل، " انتهى ". وعلى ما قدره لا يكون استثناء منقطعاً لأن مستثنى من جملة مقدرة وهي قوله: فلا نجاة من الموت وهو معتل عتل على هذا التقدير فلا يكون استثناء منقطعاً في الأول ضرورة أن الاستثناء الواحد لا يكون منقطعاً متصلاً وذهب الزمخشري وغيره إلى أنه استثناء متصل قال: وهو استثناء من أعم عام الأموال والمعنى ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس يعني ذمة الله وذمة المسلمين أي لا عز لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية، " انتهى كلامه ". وهو متجه وشبه العهد بالحبل لأنه يصل قوماً بقدم كما يفعل حبل في الإِجرام والظاهر في تكرار الحبل أنه أريد حبلان وفسر حبل الله بالإِسلام وميل الناس بالعهد والذمة وقيل حبل الله هو الذي نص الله تعالى عليه من أخذ الخبرية والثاني هو هو الذي فوض إلى رأي الإِمام فيزيد فيه وينقص بحسب الاجتهاد وفي هذه الآية توكيد بعموم الظرف في قوله: ﴿ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ ﴾ وبتكرار ضرب.﴿ وَبَآءُوا ﴾ الآية، تقدم تفسير نظيرها في البقرة وهنا الأنبياء جمع تكسير وهناك جمع سلامة وهنا بغير حق نكرة وهناك بغير الحق معرفة، وذلك من التفنن في الكلام.


الصفحة التالية
Icon