﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ الآية نزلت في اليهود مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر شيئاً من أحوال الآخرة وأن الكفار إذ ذاك يودون لو تسوى بهم الأرض، وجاءت الآية بعد ذلك كالاعتراض بين ذكر أحوال الكفار في الآخرة وذكر أحوالهم في الدنيا مع المؤمنين ذكر أحوالهم في الدنيا وما هم عليه من معاداة المؤمنين وكيف يعاملون رسول الله الذي يأتي عليهم شهيداً وعلى غيرهم ولما كان اليهود أشد إنكاراً للحق وأبعد من قبول الخير، وكان قد تقدم أيضاً﴿ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ﴾[النساء: ٣٧] وهم أشد الناس تحلياً بهذين الوصفين.﴿ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ ﴾ الظاهر أن من الكتاب صفة لقوله: نصيباً، وأريد بالكتاب الجنس والنصيب التوراة ويجوز أن يتعلق من الكتاب بقوله: أوتوا.﴿ يَشْتَرُونَ ٱلضَّلَٰلَةَ ﴾ أي بالهدى وحذفه لأن الضلالة تدل عليه كما صرح به في قوله اشتروا الضلالة بالهدى. والمعنى ألا تعجب ممن أنزل عليه من الكتب الإِلهية ومع ذلك لم يتبع ما أنزل إليه وآثروا الضلالة على الهدى.﴿ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ ﴾ أي لم يكفهم أن ضلوا في أنفسهم حتى تعلقت آمالهم بضلالكم أنتم أيها المؤمنون عن سبيل الحق، لأنهم لما علموا أنهم قد خرجوا من الحق إلى الباطل كرهوا أن يكون المؤمنون مختصين باتباع الحق فأرادوا أن يضلوا كما ضلوهم. كما قال تعالى:﴿ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً ﴾[النساء: ٨٩].
وقرىء: ﴿ أَن تَضِلُّواْ ﴾ بضم التاء وكسر الضاد من أضل وقراءة الجمهور بفتح التاء وكسر الضاد من ضل.﴿ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ ﴾ لما ذكر تعالى أنهم أوتوا التوراة وآثروا اشتراء الضلالة، ذكر أيضاً مما يذمهم به وهو تحريف الكلم عن مواضعه. فقوله:﴿ يُحَرِّفُونَ ﴾ صفة لمبتدأ محذوف وخبره الجار والمجرور قبله وحذفه فصيح كقول العرب: مناطعن ومنا أقام. وأجاز القراء أن يكون المحذوف الموصول تقديره من يحرفون فيحرفون صلة لمن المحذوفة.﴿ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ﴾ الظاهر أنهم شافهوا النبي صلى الله عليه وسلم بهاتين الجملتين وخاطبوه بقولهم: ﴿ وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ﴾ وهذا كلام موجّه. والظاهر أنهم أرادوا به الوجه المكروه لسياق ما قبله من قوله: سمعنا وعصينا، وانتصب غير مسمع على الحال أي واسمع حال كونك لا تسمع فيكون ذلك على سبيل الدعاء كأنهم قالوا: واسمع لا سمعت. ويجوز أن يكون غير مسمع صفة لمصدر محذوف أي واسمع سمعاً غير مسمع.﴿ وَرَٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ ﴾ تقدم تفسير راعنا في البقرة. وليا أي فتلا، وتحريفاً عن الحق إلى الباطل. وانتصاب ليا وطعناً على المفعول من أجله أو على أنهما مصدران في موضع الحال وطعنهم في الدين إنكار نبوته وتغيير نعته.﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ أي لو تبدلوا بالعصيان الطاعة ومن راعنا بأنظرنا. وقال الزمخشري: ولو ثبت قولهم سمعنا وأطعنا لكان قولهم ذلك حيزاً لهم وأقوم وأعدل وأسد. " انتهى ". سبك الزمخشري من أنهم قالوا مصدراً مرتفعاً بثبت على الفاعلية وهذا مذهب المبرد خلافاً لسيبويه إذ يرى سيبويه أن انّ بعد لو مع ما عملت فيه تتقدر باسم مبتدأ وهل الخبر محذوف أو لا يحتاج إلى تقدير الخبر لجريان المسند والمسند إليه في صلة أن قولان أصحهما هذا. فالزمخشري وافق مذهب المبرد وهو مذهب مرجوح في علم النحو.﴿ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ استثناء من ضمير المفعول في لعنهم، أي إلا قليلاً لم يلعنهم فأمنوا، أو استثناء من الفاعل في فلا يؤمنون، أي إلا قليلاً فآمنوا كعبد الله بن سلام وكعب الاحبار وغيرهما أو هو راجع إلى المصدر المفهوم من قوله: فلا يؤمنون أي إلا إيماناً قليلاً فلله إذ آمنوا بالتوحيد وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبشرائعه. وقال الزمخشري: إلا إيماناً قليلاً أي ضعيفاً ركيكاً لا يعبأ به وهو إيمانهم بمن خلقهم مع كفرهم بغيره وأراد بالقلة العدم كقوله: قليل التشكي للهموم تصيبه أي عديم التشكي. وقال ابن عطية: من عبر بالقلة عن الإِيمان، قال: هي عبارة عن عدمه على ما حكى سيبويه من قولهم أرض قلّما تنبت كذا وهي لا تنبت جملة. وهذا الذي ذكره الزمخشري وابن عطية من أن القليل يراد به العدم هو صحيح في نفسه لكن ليس هذا التركيب الاستثنائي من تراكيبه، فإِذا قلت: لا أقوم إلا قليلاً لم يوضع هذا الانتفاء القيام البتة، بل هذا يدل على انتفاء القيام منك إلا قليلاً فيوجد منك. وإذا قلت: قلّ ما يقوم أحد إلا زيد وأقلُّ رجل يقول ذلك، احتمل هذا أن يراد به التقليل المقابل للتكثير، واحتمل أن يراد به النفي المحض، وكأنك قلت: ما يقوم أحد إلا زيد وما رجل يقول ذلك، اما أن تنفي ثم توجب ويصير الإِيجاب بعد النفي يدل على النفي فلا إذ تكون إلا وما بعدها على التقدير جيء بها لغواً لا فائدة إذ الانتفاء قد فهم من قولك لا أقوم فأي فائدة في استثناء مثبت يراد به الانتفاء المفهوم من الجملة السابقة، وأيضاً فإِنه يؤدي إلى أن يكون ما بعد إلا موافقاً لما قبلها في المعنى، وباب الاستثناء لا يكون فيه ما بعد إلا موافقاً لما قبلها. وظاهر قوله: فلا يؤمنون إلا قليلاً إذا جعلناه عائداً إلى الإِيمان إن الإِيمان يتجزأ بالقلة والكثرة فيزيد وينقص والجواب أن زيادته ونقصه هو بحسب قلة المتعلقات وكثرتها.