﴿ مَّا ٱلْمَسِيحُ ﴾ الآية لما رد على النصارى قولهم الأول بقول المسيح﴿ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾[المائدة: ٧٢، ١١٧]، والثاني، بقوله:﴿ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ﴾[المائدة: ٧٣]، أثبت له الرسالة بصورة الحصر أي: ما المسيح ابن مريم شيء مما تدعيه النصارى من كونه إلهاً وكونه أحد آلهة ثلاثة بل هو رسول من جنس الرسل الذين خلوا وتقدموا جاء بآيات من عند الله. ﴿ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ﴾ هذا البناء من ابنيه المبالغة، والأظهر أنه من الثلاثي المجرد نحو: سكير من سكر. ويجوز أن يكون بناء من صدق لقوله تعالى:﴿ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا ﴾[التحريم: ١٢].
كما قيل في أبي بكر رضي الله عنه الصديق. ﴿ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ ﴾ هذا تنبيه على سمة الحدوث وتبعيد عن اعتقاد ما اعتقدته النصارى فيهما من الألوهية لأن من احتاج إلى الطعام وما يتبعه من العوارض لم يكن إلا جسماً مركباً من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام.﴿ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلآيَاتِ ﴾ أي الاعلام في الأدلة الظاهرة على بطلان ما اعتقدوه، وهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم وفي ضمن ذلك الأمر لأمته بالنظر في ضلال هؤلاء وبعدهم عن قبول ما نبهوا عليه. ﴿ ثُمَّ ٱنْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴾ كرر الأمر بالنظر لاختلاف المتعلق لأن الأول أمر بالنظر في كونه تعالى أوضح لهم الآيات وبينهما بحيث لا يقع معها لبس، والأمر الثاني هو بالنظر في كونهم يصرفون عن استماع الحق وتأمله أو في كونهم يقلبون ما بين لهم إلى الشد منه وهذان أمرا تعجيب. ودخلت ثم لتراخي ما بين العجبين وكأنه يقتضي العجب من توضيح الآيات وتبيينها ثم ينظر في حال من بينت له فترى إعراضهم عن الآيات أعجب في توضيحها لأنه يلزم من تبيينها تبنُها لهم والرجوع إليهما فكونهم أفكوا عنها أعجب.﴿ قُلْ أَتَعْبُدُونَ ﴾ الآية لما كان إشراكهم بالله تضمن القول والاعتقاد جاء الختم بقوله: وهو السميع أي لأقوالكم العليم باعتقادكم وما انطوت عليه نياتكم. وفي الاخبار عنه تعالى بهاتين الصفتين تهديد ووعيد على ما يقولونه ويعتقدونه وتضمنت الآية الإِنكار عليهم حيث عبدوا من دونه من هو متصف بالعجز عن دفع أو جلب نفع. قيل ومن مرت عليه مُدَد لا يسمع فيها ولا يعلم لجدير أن لا يعبد كيف وقد تركوا عبادة القادر على الإِطلاق السميع للأصوات العليم بالنيات.﴿ قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ ﴾ ظاهره نداء أهل الكتاب الحاضرين زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتناول من جاء بعدهم ولما سبق القول في أباطيل اليهود وثنى بأباطيل النصارى جمع الفريقان في النهر عن الغلو في الدين وانتصب غير الحق على معنى غلواً غير الحق وهو الغلو الباطل. وليس المراد هنا بالدين ما هم عليه بل المراد الدين الحق الذي جاء به موسى وعيسى عليهما السلام. ومن غلو اليهود إنكار نبوة عيسى وادعاؤهم فيه أنه لغيه ومن غلو النصارى ما تقدم من اعتقاد بعضهم فيه أنه الله وبعضهم أنه أحد آلهة ثلاثة.﴿ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ ﴾ الآية، هؤلاء القوم هم أسلاف اليهود والنصارى ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم كثيراً ثم عين ما ضلوا عنه وهو السبيل السوي المتوسط في الدين. وتخصيص ابن عطية والزمخشري عموم أهل الكتاب بالنصارى خروج عن الظاهر وهو العموم من غير داعية إلى ذلك ويؤيد العموم قوله بعد ذلك على لسان داود وعيسى ابن مريم، داود بالنسبة إلى اليهود وعيسى بالنسبة إلى النصارى.﴿ لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الآية، قال ابن عباس: لعنوا بكل لسان لعنوا على عهد موسى في التوراة وعلى عهد داود في الزبور وعلى عهد عيسى في الإِنجيل وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن ولعن مبني للمفعول حذف فاعله فيجوز أن يكون الله ويجوز أن يكون الفاعل غيره تعالى كالأنبياء. والأفصح أنه إذا فرق بين الجزأين اختير لفظ الإِفراد على لفظ التثنية وعلى لفظ الجمع فلذلك جاء على لسان مفرداً ولم يأت على لسانَيْ داود وعيسى ولا على ألسن داود وعيسى فلو كان المتضمنان غير مفترقين اختير لفظ الجمع على التثنية وعلى الإِفراد نحو قوله تعالى:﴿ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾[التحريم: ٤]، والمراد باللسان هنا الجارحة لا اللغة أي أن الناطق بلعنهم هو لسان داود وعيسى. ﴿ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا ﴾ أي ذلك اللعن كائن بسبب عصيانهم وذكر هذا على سبيل التوكيد وإلا فقد فهم سبب ولكن بإِسنادها إلى من تعلق بهذا الوصف الدال على العلية وهو الذين كفروا كما تقول: رجم الزاني، فيعلم أن الرجم سببه الزنا، كذلك اللعن سببه الكفر، ولكن أكد بذكره ثانية في قوله: ذلك بما عصوا، وما مصدرية في قوله: بما عصوا أي بعصيانهم وكانوا يجوزان يكون معطوفاً على عضواً فيكون داخلاً في صلة ما أي بعصيانهم وكونهم ويجوز أن يكون إخباراً من الله تعالى أن شأنهم الإِعتداد.﴿ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ ﴾ الآية ظاهرة التفاعل بمعنى الاشتراك أي لا ينهي بعضهم بعضاً وذلك أنهم جمعوا بين فعل المنكر والتجاهر به وعدم النهي عنه والمعصية إذا فعلت وقدرت على العبد ينبغي أن يستتر بها من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر فإٍِذا فعلت جهاراً وتواطؤاً على عدم الإِنكار كان ذلك تحريضاً على فعلها وسبباً مثيراً لإِفشائها كثيراً. قرىء ﴿ كَثِيراً مِّنْهُمْ ﴾ الآية الظاهر عود الضمير في منهم على بني إسرائيل فقال مقاتل كثيراً منهم هم من كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتولون الكفار وعبدة الأوثان، والمراد كعب بن الأشرف وأصحابه الذين استجاشوا المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا تكون قرى بصرية، ويحتمل أن تكون من رؤية القلب.﴿ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ الآية، قال الزمخشري في قوله: أن سخط، أنه المخصوص بالذم ومحله الرفع كأنه قيل: لبئس زادهم إلى الآخرة سخط الله عليهم، والمعنى موجب سخط الله عليهم. " انتهى ". ولا يصح هذا الإِعراب إلا على مذهب الفراء والفارس في ان ما موصولة، أو على مذهب من جعل في بئس ضميراً وجعل ما تمييزاً بمعنى شيئاً، وقدمت صفة للتمييز وأما على مذهب سيبويه فلا يستوي ذلك لأن ما عنده اسم تام معرفة بمعنى الشيء، والجملة بعده صفة للمخصوص المحذوف والتقدير ليس الشيء شيء قدمت لهم أنفسهم فيكون على هذا أن سخط في موضع رفع على البدل من المخصوص المحذوف أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أن سخط. وقال ابن عطية: وإن سخط في موضع رفع بدل من ما. " انتهى ". ولا يصح هذا سواء كانت ما موصولة أم تامة لأن البدل يحل محل المبدل منه وإن سخط لا يجوز أن يكون فاعلاً لبئس لأن فاعل بئس ونعم لا يكون أن والفعل. وقيل: ان سخط في موضع نصب بدلاً من الضمير المحذوف في قدمت أي قدمته، كما تقول: الذي ضربت زيداً أخوك تريد ضربته زيداً، وقيل: على إسقاط اللام أي لأن سخط.﴿ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ ﴾ الآية إن كان المراد بقوله: ترى كثيرا منهم، أسلافهم فالنبي داود وعيسى عليهما السلام أو معاصري الرسول فالنبي هو محمد صلى الله عليه وسلم والذين كفروا عبدة الأوثان والمعنى لو كانوا يؤمنون إيماناً خالصاً غير نفاق إذ موالاة الكفار دليل على النفاق. والظاهر في ضمير كانوا وضمير الفاعل في ما اتخذوهم أنه يعود على كثير منهم وفي ضمير المفعول أنه يعود على الذين كفروا. وقال القفال وجهاً آخر وهو أن يكون المعنى ولو كان هؤلاء المتولون من المشركين يؤمنون بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم ما اتخذوهم هؤلاء اليهود أولياء والوجه الأول أولى لأن الحديث إنما هو عن قوله: كثيراً منهم، فعود الضمائر على نسق واحد أولى من اختلافهما وجاء جواب لو حنفياً بما بغير لام وهو الأفصح ودخول اللام عليه قليل، نحو قول الشاعر: لو أن بالعلم تقضي ما تعيش به لما ظفرت من الدنيا بتفروق﴿ وَلَـٰكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ ﴾ خص الكثير بالفسق إذ فيهم قليل قد آمن والمخبر عنهم أولاً هؤلاء الكثير والضمائر بعده له، وليس المعنى ولكن كثيراً من ذلك الكثير ولكنه لما طال أعيد بلفظه وكان من وضع الظاهر بلفظه موضع الضمير إذ كان السياق يكون ما اتخذوهم أولياء ولكنهم فاسقون فوضع الظاهر موضع هذا الضمير.