﴿ مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ ﴾ الآية مناسبتها لما قبلها تعالى لما نهى عن سؤال ما لم يأذن فيه ولا كلفهم إياه منع من التزام أمور ليست مشروعة منه تعالى. والبحيرة فعيلة بمعنى مفعولة، كالنطيحة بمعنى المنطوحة وهي الناقلة إذا أنتجت خمسة أبطن في آخرها ذكر شقوا أذنها وخلوا سبيلها لا تركبُ ولا تحلب ولا تطرد عن ماء ولا مرعى. والسائبة فاعلة من ساب يسبب إذا جرى على وجه الأرض، يقال: ساب الماء وسابت الحية. وقال ابن عباس: السائبة هي التي تسيّب للأصنام أي تعتق. وكان الرجل يسيب من ماله شيئاً فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها للسبيل. والوصيلة قال ابن عباس: إنها الشاة تنتج سبعة أبطن فإِن كان السابع أنثى لم ينتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت فيأكلها الرجال والنساء، وإن كان ذكراً ذبحوه وأكلوه جميعاً، وإن كان ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فتترك مع أخيها فلا تذبح، ومنافعها للرجال دون النساء فإِذا ماتت اشترك الرجال والنساء فيها. والحافي إسم فاعل من حمى وهو الفحل من الإِبل. قال ابن مسعود وابن عباس: هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن، فيقولون: قد حمي ظهره، فيسيبونه لآلهتهم فلا يحمل عليه شيء. ومن في قوله: من بحيرة، زائدة وبحيرة مفعولة. بجعل. قال الزمخشري: معنى ما جعل ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير والتسييب وغير ذلك. " انتهى ". وقال ابن عطية: وجعل في هذه الآية لا يتجه أن تكون بمعنى خلق لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها، ولا هي بمعنى صيّر لعدم المفعول الثاني إنما هو بمعنى ما سنّ ولا شرع. " انتهى ". لم يذكر النحويون في معنى جعل شرع بل ذكروا أنها تأتي بمعنى خلق، وبمعنى ألقى، وبمعنى صيّر، وبمعنى الأخذ في الفعل، فتكون من أفعال المقاربة، وذكر بعضهم أنها تجيء بمعنى سمّى وقد جاء حذف أحد مفعولي ظن وأخواتها لكنه قليل والحمل على ما سمع أولى من إثبات معنى لم يثبت في لسان العرب فيحتمل أن يكون المفعول الثاني محذوفاً أي ما صير الله بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حامياً مشروعة بل هي من شرع غير الله والانعام خلقها الله رفقاً بعباده ونعمة عددها عليهم ومنفعة بالغة وأهل الجاهلية قطعوا طريق الانتفاع بها واذهاب نعمة الله فيها.﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الآية استدراك بعد نفي والمعنى ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب يجعلون البحيرة وما بعدها من جعل الله تعالى ذلك وعبّر بقوله الكذب عن نسبة ذلك الجعل إلى الله تعالى. ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ ﴾ الآية تقدم تفسيرها في البقرة. وهنا تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه أباءنا، وهناك اتبعوا ما أنزل الله قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه اباءنا، وهنا لا يعلمون شيئاً، وهناك لا يعقلون شيئاً، والمعنى في هذا التغاير لا يكاد يختلف. قال ابن عطية: في أولو ألف التوقيف دخلت على واو العطف كأنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى والتزموا شنيع القول فإِنما التوقيف توبيخ لهم كأنهم يقولون بعده نعم ولو كانوا كذلك. " انتهى ". قوله في الهمزة ألف التوقيف عبارة لم أقف عليها من كلام النحاة يقولون: همزة الإِنكار همزة التوبيخ وأصلها همزة الإِستفهام، وقوله: كأنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى يعني فكان التقدير وأولَوْ فاعتنى بالهمزة فقدمت، كقوله:﴿ أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾[الروم: ٩]، وليس كما ذكر من أنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى على ما نبينه إن شاء الله تعالى. قال الزمخشري: والواو في قوله: أولو كان آباؤهم، وَاو الحال وقد دخلت عليها همزة الإِنكار والتقدير أحْسبهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون، والمعنى أن الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة، جعل الزمخشري الواو في أولو واو الحال وهو مغاير لقول ابن عطية انها واو العطف كأنهم عطفوا هذه الجملة على الجملة الأولى وتقول أنها يصح أن يقال هي واو العطف لها من الجهة التي ذكرها ابن عطية واو الحال لكن يحتاج ذلك إلى تبيين، وذلك أنه قد تقدم من كلامنا أن لو التي تجيء هذا المجيء هي شرطية وتأتي لاستقصاء ما قبلها والتنبيه على حالة داخلة فيما قبلها وإن كان مما ينبغي أن لا يدخل كقوله:" اعطوا السائل ولو جاء على فرس "" وردوا السائل ولو بظلف محرق "" واتقوا النار ولو بشق تمرة "وقول الشاعر: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم دون النساء ولو باتت باظهاروالمعنى أعطوا السائل على كل حال ولو في الحالة التي تشعر بالغنى وهي مجيئه على فرس، وكذلك يقدر ما ذكرنا من المثل على ما يناسب، فالواو عاطفة على كل حال مقدرة فمن حيث هذا العطف صح أن يقال هي عاطفة ومن حيث أن العطف على الحال حال صح أن يقال انها واو الحال، وقد تقدم الكلام على ذلك في البحر باشبع من هذا، فالتقدير في الآية أحْسبُهم اتباع ما وجدوا عليه آباءهم على كل حال ولو كان في الحالة التي تنتفي عن آبائهم العلم والهداية فإِنها حالة ينبغي أن لا تتبع فيها الاباء لأن ذلك حال من غلب عليه الجهل المفرط.﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ قال ابن أمية الشعباني:" سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية فقال: لقد سألت عنها خبيراً سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إئتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإِذا رأيت دنيا مؤثرة وشحاً مطاعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويّصة نفسك "ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما بين أنواع التكاليف. ثم قيل: ما على الرسول إلا البلاغ إلى قوله: وإذ قيل لهم تعالوا، الآية، كان المعنى أن هؤلاء الجهال بما تقدم من المبالغة في الإِعزاز والإِنذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل بقوا مصرين على جهلهم فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم وضلالتهم فإِن ذلك لا يضركم، بل كونوا منقادين لتكاليف الله تعالى مطيعين لأوامره، وعليكم من كلم الإِعزاء، وله باب معقود في النحو وهو معدود في أسماء الأفعال فإِن كان الفعل متعدياً كان اسمه متعدياً وإن كان لازماً كان لازماً. وعليكم اسم كقولك إلزم فهو متعد فلذلك نصب المفعول به. والتقدير هنا عليكم إصلاح أنفسكم أو هداية أنفسكم.﴿ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ﴾ أي مرجع المهتدين والضالين، وغلب الخطاب على الغيبة كما تقول: أنت وزيد تقومان، وهذا فيه تذكير بالحشر وتهديد بالمجازاة.