﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ ﴾ الظاهر أن الوحي على ألسنة الرسل والرسول هنا هو عيسى عليه السلام وهذا الإِيحاء هو إلى الحواريين هو من نعم الله تعالى على عيسى بأن جعل له أتباعاً يصدّقونه ويعملون بما جاء به.﴿ أَنْ آمِنُواْ ﴾ أن تفسيرية بمعنى أي، ويجوز أن تكون مصدرية أي بالإِيمان. ﴿ قَالُوۤاْ آمَنَّا ﴾ أي بك وبرسولك. و ﴿ مُسْلِمُونَ ﴾ أي منقادون لأمرك.﴿ إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ ﴾ ظاهر اللفظ أن قوله تعالى:﴿ إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ ﴾[المائدة: ١١٠]، إلى آخر قصة المائدة، كان ذلك في الدنيا ذكر تعالى عيسى بنعمته وبما أجراه على يده من المعجزات وباختلاف بني إسرائيل عليه وانقسامهم إلى كافر ومؤمن وهم الحواريون وغيرهم ثم استطرد إلى قصة المائدة إعلاماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما صدر من الحواريين في قصة المائدة بعد إقرارهم بالإِيمان بالله وبعيسى عليه السلام إذ في سؤال المائدة بعض تعنت من الحواريين، وفي قولهم: السلام إذ في سؤال المائدة بعض تعنت من الحواريين، وفي قولهم: يا عيسى ابن مريم سوء أدب، إذ لم يقولوا: يا روح الله، أو يا رسول الله. وفي قولهم: هل يستطيع ربك سوء أدب، وقرأ الجمهور: هل يستطيع ربك بالياء وربك بالرفع. وقرأ الكسائي: هل تستطيع بالتاء، وربك بالنصب وهو على حذف مضاف تقديره سؤال ربك، فالمعنى هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزل، وهذه القراءة أحسن من المحاورة من قراءة الجمهور.﴿ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾ والمائدة الخوان الذي عليه طعام فإن لم يكن عليه طعام فليس بمائدة. ﴿ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ فيه إنكار عليهم. واقتراح هذه الآية وبشاعة اللفظ في قولهم: هل يستطيع ربك، بعد قولهم: امنا بك وبرسولك، ويدل على اضطرابهم الآية التي تأتي بعدها. روي أن عيسى عليه السلام لبس جبة شعر ورداء شعر وقام يصلي ويبكي ويدعو. والآية قولهم: ﴿ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا ﴾ أي مما على المائدة. ﴿ وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا ﴾ وإن هذه هي المخففة من الثقيلة تقديره أنك قد صدقتنا.﴿ وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ ﴾ قال الزمخشري: عاكفين عليها على أن عليها في موضع الحال. " انتهى ". وهذا التقدير ليس بجيد لأن حرف الجر لا يحذف عامله وجوباً إلا إذا كان كوناً مطلقاً لا كوناً مقيداً والعكوف كون مقيد ولأن المجرور إذا كان في موضع الحال كان العامل فيها عاكفين المقدر، وقد ذكرنا أنه ليس بجيد. ثم ان قول الزمخشري مضطرب لأن عليها إذا كان ما يتعلق به هو عاكفين كانت في موضع نصب على المفعول الذي تعدى إليه العامل بحرف الجر، وإذا كانت في موضع الحال كان العامل فيها كوناً مطلقاً واجب الحذف فظهر التنافي بينهما والله أعلم. ثم أن عيسى عليه السلام دعا الله تعالى باسمه العلم الذي لا شركة فيه وهو: اللهم، وربنا، أي مصلحنا ومالك أمرنا.﴿ تَكُونُ لَنَا عِيداً ﴾ المعنى تكون يوم نزولها عيداً. قيل: وهو يوم الأحد، ومن أجل ذلك اتخذه النصارى عيداً، والعيد السرور والفرح، ولذلك يقال: يوم عيد، والمعنى أن تكون لنا سروراً وفرحاً، والعيد المجتمع للقوم المشهور وعرفه أن يقال فيما يستدير بالسنة أو بالشهر أو بالجمعة ونحوه.﴿ لأَوَّلِنَا ﴾ لأهل زماننا. ﴿ وَآخِرِنَا ﴾ من يجيء بعدنا. ولأولنا بدل من ضمير المتكلم في قوله: لنا، وأعيد فيه حرف الجر وجاز ذلك لأن معنى قوله: لأوّلنا وآخرنا، كلنا. كقولك: مررت بكم صغيركم وكبيركم، أي كلكم. وضمير المتكلم والمخاطب لا يبدل منهما إلا بتوكيد نحو: قمت أنا نفسي قمت، وأنت نفسك، إلا أن كان البدل يفيد معنى التوكيد فيجوز كهذه الآية.﴿ وَآيَةً مِّنْكَ ﴾ أي علامة شاهدة على صدق عبدك. ﴿ وَٱرْزُقْنَا ﴾ عام في طلب الرزق من المائدة وغيرها. ﴿ قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ﴾ الآية اختلفوا في كيفية نزولها، وفيما كان عليها، وعدد من أكل منها، وفيما آل إليه حال من أكل منها اختلافاً مضطرباً معارضاً ذكره المفسرون واضربت عنه صفحاً إذ ليس فيه شيء يدل عليه لفظ الآية وأحسن ما يقال فيه ما خرجه الترمذي في أبواب التفسير عن عمار بن ياسر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً وأمروا أن لا يدخروا لغد ولا يخونوا فخانوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير "﴿ فَمَن يَكْفُرْ ﴾ جملة شرطية جوابها فأنى أعذبه الآية. قال الحسن ومجاهد: لما سمعوا هذا الشرط أشفقوا فلم تنزل.﴿ وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ﴾ الآية، قال ابن عباس وقتادة والجمهور: هذا القول إنما هو من عند الله يوم القيامة يقول له على رؤوس الأشهاد فيعلم الكفار أن ما كانوا فيه باطل فيكون هذا من تمام قوله: اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك المقول في الآخرة، وفصل بينهما بآية المائدة تنبيهاً على ما صدر من بني إسرائيل وإن كانوا أظهروا الإِيمان بالله وبعيسى عليه السلام لينبه المؤمنين على أن سؤال الاقتراح ينبغي أن يتحرز منه وكثيراً اقترح بنوا إسرائيل ما لا يجوز كقولهم:﴿ ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾[الأعراف: ١٣٨]، وكقولهم:﴿ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً ﴾[النساء: ١٥٣]، وفي إيلاء الاستفهام الاسم ومجيء الفعل بعده دلالة على صدور الفعل في الوجود لكن وقع الاستفهام عن النسبة. أكان هذا الفعل الواقع صادراً عن المخاطب أم ليس بصادر عن بيان ذلك انك تقول: أضربت زيداً، فهذا الاستفهام هل صدر منك ضرب لزيد أم لا، ولا اشعار فيه بأن ضرب زيد وقع فإِذا أفلت أنت ضربت زيداً، كان الضرب قد وقع بزيد لكنك استفهمت عن إسناده للمخاطب وهذه مسألة بيانية نحوية نص على ذلك أبو الحسن الأخفش. وذكر المفسرون أنه لم يقل أحد من النصارى بآلهية مريم فكيف قيل: إلهن، وأجابوا بأنهم لما قالوا: لم تلد بشراً وإنما ولدت إلهاً لزمهم أن يقولوا من حيث البعضية بإِلهية من ولدته فصاروا بمثابة من قاله. " انتهى ". والظاهر صدور القول في الوجود لا من عيسى عليه السلام ولا يلزم من صدور القول وجود الاتخاذ.﴿ قَالَ سُبْحَانَكَ ﴾ أي تنزيهاً لك عن أن يقال هذا وينطق به أو أن يكون لك شريك بدأ أولاً بتنزيه الله تعالى. ثم ثانياً بإِنكار ذلك القول بقوله: ﴿ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ﴾.
ثم ثالثاً بقوله: ﴿ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ﴾ علق مستحيلاً على مستحيل وهو نفيه علمه تعالى بذلك القول فانتفى ذلك القول. ثم رابعاً بإِحاطة علمه تعالى بما في نفس عيسى عليه السلام بقوله: ﴿ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي ﴾.
وقوله: ﴿ وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ﴾ من باب المقابلة، ولا يقال أن لله نفساً وإن كان قد جاء قوله تعالى:﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ ﴾[آل عمران: ٢٨] قالوا: معناه: عقابه. ونظيره في المقابلة قوله تعالى:﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ ﴾[آل عمران: ٥٤].


الصفحة التالية
Icon