﴿ وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾ الآية، لما تقدم ما يدل على القدرة التامة والاختيار ذكر ما يدل على العلم التام فكان في التنبيه على هذه الأوصاف دلالة على كونه تعالى قادراً مختاراً عالماً بالكليات والجزئيات وابطالاً لشبه منكري المعاد قيل: هو ضمير الشأن وما بعده مبتدأ خبره وهو علم تضمن معنى المعبود، وفي السماوات وفي الأرض متعلق به، والاسم العلم قد تضمَّن معنى المشتق فيعمل فيما بعده كما قال الشاعر: أنا أبو المنهال بعض الأحيان   فضمن أبو المنهال معنى المشهور فلذلك نصب بعض الأحيان، وبعض ظرف زمان لإِضافته لظرف زمان. وقال: نحواً من هذا الزمخشري وابن عطية.﴿ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ عام لجميع الاعتقادات والأقوال والأفعال وكسب كل إنسان عمله المفضي به إلى اجتلاب نفع أو دفع ضر ولهذا لا يوصف به الله تعالى.﴿ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ ﴾ الآية من الأولى زائدة تدل على الاستغراق وآية فاعل بتأتيهم ومن الثانية في موضع الصفة للتبعيض تقديره من آية كائنة من آيات ربهم، أي تلك الآية بعض آيات الله تعالى والمراد بآية، والآية علامة تدل على الوحدانية وانفراده بالألوهية والرسالة والمعجز الخارق والقرآن. وفي تأتيهم التفات وهو خروج من خطاب في قوله: يعلم بسركم إلى غيبة في تأتيهم، والرب هو المالك المصلح الناظر في مصالح عباده فكان المناسب أن لا يعرضوا عن آيات مالكهم ومصلحهم وكانوا بعد إلا في موضع نصب على الحال ولم يجيء في القرآن هذه الحال بعد إلاّ إلا بلفظ الماضي. وقد جاءت في كلام العرب مصحوبة بقد. قال الشاعر: متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة   لنفسي إلا قد قضيت قضاءهاقال الزمخشري: يعني ما يظهر لهم قط دليل من الأدلة التي يجب فيها النظر والإِستدلال والاعتبار إلا كانوا عنه معرضين. " انتهى ". واستعمال الزمخشري قط مع المضارع في قوله: وما يظهر لهم قط دليل ليس بجيد، لأن قط ظرف مختص بالماضي إلا ان كان أراد بقوله: وما يظهر وما ظهر، ولا حاجة إلى استعمال ذلك. ومعنى عنها أي عن قبولها أو سماعها والإِعراض ضد الإِقبال وهو مجاز إذ حقيقته في الأجسام.﴿ فَقَدْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ ﴾ كذب فعل متعد إلى مفعول بنفسه كقوله:﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ ﴾[الحج: ٤٢] وجاء هنا متعدياً بالباء كما في قوله:﴿ يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ ﴾[الماعون: ١].
وقوله:﴿ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ ﴾[الأنعام: ٦٦]، ضمن معنى الاستهزاء فتعدى بالباء والحق عام في القرآن والإِسلام ومحمد صلى الله عليه وسلم وانشقاق القمر والوعد والوعيد. والفاء في قوله: فقد كذبوا للتعقيب وان إعراضهم عن الآية أعقبه التكذيب. وقال الزمخشري: فقد كذبوا مردود على كلام محذوف كأنه قيل: إن كانوا معرضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظم آية وأكبرها، وهو الحق لما جاءهم يعني القرآن الذي تحدوا به على تبالغهم في الفصاحة فعجزوا عنه." انتهى ". ولا ضرورة تدعو إلى تقدير شرط محذوف إذا الكلام منتظم دون هذا التقدير.﴿ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ ﴾ هذه رتب ثلاثة صدرت من هؤلاء الكفار الأول عن تأمل الدلائل ثم التكذيب ثم الاستهزاء. والنبأ: الخبر الذي يعظم وقعه، وكني بالانباء عما يحل بهم في الدنيا من القتل والسبي والجلاء وما يحل بهم في الآخرة من عذاب النار. وبه متعلق يستهزئون ودل قوله: يستهزؤون على أن المراد بقوله: كذبوا بالحق، أي استهزؤوا ولذلك عداه بالباء.﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا ﴾ الآية، لما هددهم وأوعدهم على إعراضهم وتكذيبهم واستهزائهم أتبع ذلك بما يجري مجرى الموعظة والنصيحة وحض على الإِعتبار بالقرون الماضية. ويروا هنا بمعنى يعلموا. وكم في موضع المفعول بأهلكنا. ويروا معلقة. والجملة في موضع مفعوليها، ومن الأولى لإِبتداء الغاية، ومن الثانية للتبعيض، والمفرد بعدها واقع موقع الجمع كأنه قال: من القرون ويعني به قوم نوح وعاد وثمود وأشباههم ومكن في مكناهم متعد بمفعول كقوله:﴿ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ﴾[الكهف: ٩٥].
ويتعدى باللام في قوله: لكم، وكقوله تعالى:﴿ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾[يوسف: ٢١].
﴿ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ ﴾ المراد بالإِرسال الإِنزال والسماء قيل: عبر بها عن المطر. كما قال الشاعر: إذا نزل السماء بأرض قوم   يعني المطر. وقيل: هو على حذف مضاف أي وأرسلنا مطر السماء. و ﴿ مِّدْرَاراً ﴾ منصوب على الحال من السماء أو من المضاف إليه وهو المطر. ومدرارا مفعال يستوي فيه المذكر والمؤنث.﴿ وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ ﴾ تقدم تفسيره في البقرة: والظاهر أن الذنوب هنا هي كفرهم وتكذيبهم برسل الله تعالى وآياته.﴿ وَأَنْشَأْنَا ﴾ فائدة إنشاء قرن بعد قرن إظهار القدرة على إهلاك ناس وإنشاء ناس. وقرن مفرد وصف بالجمع مراعاة لمعناه إذ كان تحته أفراد كثيرون ولو وصف في غير القرآن يعتل قرناً آخر على اللفظ ولكن روعي المعنى فجمع مراعاة للفواصل. و ﴿ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَٰباً ﴾ الآية، سبب نزولها اقتراح عبد الله بن أبي أمية وتعنته إذ قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لا أؤمن لك حتى تصعد إلى السماء ثم تنزل بكتاب فيه من رب العزة إلى عبد الله بن أبي أمية يأمرني بتصديقك وما أراني مع هذا كنت أصدقك، ثم أسلم بعد ذلك وقتل شهيداً بالطائف. ولما ذكر تعالى تكذيبهم بالحق لما جاءهم ثم وعظهم وذكرهم بإِهلاك القرون الماضية بذنوبهم، ذكر مبالغتهم في التكذيب بأنهم لو رأوا كلاماً مكتوباً في قرطاس ومع رؤيتهم جسده بأيديهم لم تزدهم الرؤية واللمس إلا تكذيباً وادعوا ان ذلك من باب السحر لا من باب المعجز عناداً وتعنتاً. والفاء في فلمسوه للتعقيب أي بنفس ما رأوا الكتاب لم يكتفوا برؤية البصر بل أعقبوا ذلك بحاسة اللمس وهي اليد إذ كانت أقوى في الإِحساس من غيرها، وجاء لقال الذين كفروا، لأن مثل هذا الغرض يقتضي انقسام الناس إلى مضمن وكافر فالمؤمن يراه من أعظم المعجزات والكافر يجعله من باب السحر ووصف السحر بمبين أما لكونه بيّنا في نفسه وإما لكونه أظهر غيره.


الصفحة التالية
Icon