﴿ قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ ﴾ الآية قال الفراء: للعرب في أرأيت لغتان ومعنيان، إحداهما: أن تسأل الرجل: أرأيت زيداً، أي بعينك فهذه مهموزة. وثانيهما، أن تقول: أرأيت، وأنت تريد أخبرني فهاهنا تترك الهمزة إن شئت، وهو أكثر كلام العرب يومىء إلى ترك الهمزة للفرق بين المعنين. " انتهى ". وإذا كانت بمعنى أخبرني جاز أن تختلفا لتاء مفتوحة كحالها للواحد المذكر. ومذهب البصريين أن التاء هي الفاعل وما لحقها حرف خطاب يدل على اختلاف المخاطب. ومذهب الكسائي أن الفاعل هو التاء وأن أداة الخطاب اللاحقة في موضع المفعول الأول. ومذهب الفراء ان التاء هي حرف خطاب كهي في أنت وان أداة الخطاب بعده هي في موضع الفاعل استعيرت ضمائر النصب للرفع والكلام على هذه المذاهب إبطالاً وتصحيحاً مذكور في النحو وكون أرأيت وأرأيتك بمعنى أخبرني نص عليه سيبويه وغيره من أئمة العربية، وكون أرأيت بمعنى أخبرني هو تفسير معنى لا تفسير إعراب لأن أخبرني تتعدى بعن فنقول: أخبرني عن زيد وأرأيت تتعدى لمفعول به صريح وإلى جملة استفهامية هي في موضع المفعول الثاني كقولك: أرأيت زيداً ما صنع فما بمعنى أي شىء وهو مبتدأ وضع في موضع الخبر وأما في هذه الآية فنقول: هو من باب الأعمال فارأيتكم يطلب مرفوعاً وهو قوله: عذاب الله فلما اجتمع العاملان أرأيتكم وفعل الشرط الذي هو أتاكم أعمل الثاني وهو أتاكم على اختيار مذهب البصريين أن الثاني هو أولى بالأعمال ولو كان على أعمال أرأيتكم لكان التركيب بنصب عذاب والساعة فكان يكون في غير القرآن أرأيتكم ان أتاكم عذاب الدنيا أو الساعة لكنه لما أعمل الثاني حذف مفعول أرأيتكم الأول، والثاني هو جملة الاستفهام وهو قوله: أغير الله ورابط هذه الجملة الاستفهامية بالمفعول المحذوف في أرأيتكم مقدر تقديره أغير الله تدعون لكشفه وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه تقديره ان أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة فأخبروني. وأتاكم عذاب الله، أي أتاكم خوفه وإماراته وأوائله مثل الجدب والبأساء والأمراض التي يخاف منها الهلاك، ولا يحتاج إلى تأويل العذاب بمقدماته بل إذا حل بالإِنسان العذاب واستمر عليه لا يدعو إلا الله تعالى. وقوله: أغير الله، تقديره إلهاً غير الله تدعون وهو استفهام توبيخ وتقرير.﴿ تَدْعُونَ ﴾ أي لكشف ما حل بكم وإياه مفعول مقدم انتقل من استفهام التوبيخ إلى حصر من يدعونه بقوله: بل إياه، أي بل الله تدعون. وما من قوله: ما تدعون، إلا ظهر انها موصولة. قال ابن عطية: ويصح أن تكون ظرفية. " انتهى ". فيكون مفعول يكشف محذوفاً أي فيكشف العذاب مدة دعائكم أي ما دمتم داعية وهذا فيه حذف المفعول وخروج عن الظاهر لغير حاجة ويضعّفه وصل ما الظرفية بالمضارع وهو قليل جداً إنما بابها أن توصل بالماضي، تقول: لا أكلمك ما طلعت الشمس. ويضعف ما تطلع الشمس ولذلك علة ذكرت في علم النحو، وقوله: إن شاء، مفعول شاء محذوف تقديره إن شاء كشفه وتنسون أي تتركون الإِلتجاء إلى آلهتكم التي تشركون بها ربكم.﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ ﴾ الآية، هذه تسلية له عليه السلام وإن عادة الأمم مع رسلهم التكذيب والمبالغة في قسوة القلوب، حتى إذا أخذوا بالبلايا لا يتذللون لله تعالى ولا يسألونه كشفها وهؤلاء الأمم الذين بعث الله إليهم الرسل أبلغ انحرافاً وأشد شكيمة وأجلد من الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خاطبهم تعالى بقوله: ﴿ قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ ﴾، الآية، وأخبر أنهم عند الإِمارات لا يدعون لكشفها إلا الله. وفي الكلام حذف التقدير ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فكذبوا فأخذناهم. وتقدم تفسير البأساء والضراء في البقرة. والترجي هنا بالنسبة إلى البشر أي لو رأى أحد ما حل بهم لرجا تضرعهم وابتهالهم إلى الله في كشفه. والأخذ: الإِمساك بقوة وبطش وقهر، وهو هنا مجاز عن مبالغة العقوبة والملازمة، والمعنى فعاقبناهم في الدنيا.﴿ فَلَوْلاۤ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ﴾، ولولا هنا حرف تحضيض يليها الفعل ظاهراً أو مضمراً أو فصل بينهما بالظرف فصل بين لولا وتضرعوا بإِذ وهي معمولة لتضرعوا والتحضيض بدل على أنه يقع تضرعهم حين جاء البأس، فمعناه إظهار معاتبة بذنب غائب وإظهار سوء فعله. وإسناد المجيء إلى البأس مجاز عن وصوله إليهم، والمراد أوائل البأس وعلاماته.﴿ وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ أي صلبت وصبرت على ملاقاة العذاب لما أراد الله تعالى من كفرهم ووقوع لكن هنا حسن لأن المعنى انتفاء التذلل عند مجيء البأس. ووجود القسوة الدالة على العتو والتعزز فوقعت لكن بين ضدين وهما اللين والقسوة، وكذا إن كانت القسوة عبارة عن الكفر فعبر بالسبب عن المسبب والضراعة عبارة عن الإِيمان فعبر بالمسبب عن السبب كانت أيضاً واقعة بين ضدين. تقول: فسأقلبه فكفر وآمن فتضرع.﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ يحتمل أن تكون الجملة داخلة تحت الاستدراك. ويحتمل أن يكون استئناف اخبار، والظاهر الأول فيكون الحامل على ترك التضرع قسوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي كان الشيطان سبباً في تحسينها لهم.﴿ فَلَمَّا نَسُواْ ﴾ أي تركوا الاتعاظ والازدجار بما ذكروا به من البأس استدرجناهم بتسير مطالبهم الدنيوية وعبّر عن ذلك بقوله: فتحنا عليهم أبواب كل شىء إذ يقتضي شمول الخيرات وبلوغ الطلبات.﴿ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾ ومعنى هذه الجملة معنى قوله:﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً ﴾[آل عمران: ١٧٨].
وفي الحديث الصحيح عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا رأيت الله يعطي العباد ما يشاؤن على معاصيهم فإِنما ذلك استدراج منه لهم. ثم تلا: فلما نسوا "، الآية. والأبواب عبارة عن الأسباب التي هيأها الله لهم المقتضية لبسط الرزق عليهم والإِيهام في هذا العموم لتهويل ما فتح عليه وتعظيمه، وغيا الفتح بفرحهم بما أوتوا وترتب على فرحهم أخذهم بغتة أي إهلاكهم فجأة وهو أشد الاهلاك إذ لم يتقدم شعور به فتتوطن النفس على لقائه ابتلاهم أولاً بالبأساء والضراء فلم يتعظوا ثم نقلهم إلى ما أوجب سرورهم من إسباغ النعم عليهم فلم يجد ذلك عندهم ولا تصدوا لشكر ولا أصغوا إلى إنابة بل لم يحصلوا إلا على فرح بما أسبغ عليهم. قال محمد بن النضر الحارثي: أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة.﴿ فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ ﴾ أي باهتون بائسون لا يخبرون جواباً.﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ﴾ عبارة عن استئصالهم بالهلاك ونبه على سبب الاستئصال بذكر الوصف الذي هو الظلم وهو هنا الكفر. والدابر: التابع للشىء من خلفه. يقال: دبر الولد يدبره. قال أمية بن أبي الصلت: استئصلوا بعذاب خص دابرهم فلما استطاعوا له صرفاً ولا انتصروا﴿ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ الظاهر أنه تعالى لما أرسل الرسل إلى هؤلاء الأمم كذبوهم وآذوهم فابتلاهم الله تعالى تارة بالبلاء وتارة بالرخاء فلم يؤمنوا، فأهلكهم واستراح الرسل من شرهم وتكذيبهم، وصار ذلك نعمة في حق الرسل إذ أنجز الله وعده على لسانهم بهلاك مكذبيهم فناسب هذا الفعل كله الختم بالحمد لله رب العالمين.