﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ ﴾ الآية، أمره تعالى أن يجاهرهم بالتبريء من عبادتهم غير الله تعالى ولما ذكر تفصيل الآيات ليستبين سبيل المبطل من المحق نهاه عن سلوك سبيلهم. ومعنى نهيت: زجرت. والذين تدعون هم الأصنام، عبر عنها بالذين على زعم الكفار حين أنزلوها منزلة من يعقل وتدعون. قال ابن عباس: معناه تعبدون. وقيل: تسمونهم آلهة من دعوت ولدي زيداً سميته. وقيل: تدعون في أموركم وحوائجكم. وفي قوله: تدعون من دون الله، استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا منه على غير بصيرة. ولفظة نهيت، أبلغ من النفي بلا أعبد إذ فيه ورود تكليف.﴿ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ ﴾ الآية ولما كانت أصنامهم مختلفة كان لكل عابد صنم هوى يخصه فلذلك جمع. و ﴿ إِذاً ﴾ معناها الجزاء أي قد ظللت ان اتبعت أهواءكم.﴿ وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ ﴾ جملة مؤكدة لما قبلها وأتى بالأولى بقوله: ضللت. والفعل يدل على التجدد. وفي الثانية باسم الفاعل وهو المهتدين ويدل على الثبوت فنفى تجدد الضلال وثبوت الهداية.﴿ قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي ﴾ أي على شريعة واضحة. والبينة: هي المعجزة التي تبين صدقي، وكذبتم به اخبار منه عنهم أنهم كذبوا به. والظاهر عود الضمير على ربي أي وكذبتم بربي.﴿ مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ﴾ الذي استعجلوا به هو العذاب، والاستعجال لم يأت في القرآن إلا للعذاب.﴿ إِنِ ٱلْحُكْمُ ﴾ الآية، أي الحكم على الإِطلاق، وهو الفصل بين الخصمين المختلفين بإِيجاب الثواب والعقاب. وقرىء: يقضي من القضاء، والحق نعت لمصدر محذوف أي يقضي القضاء الحق. وقيل: الحق مفعول بيقضي، ومعنى يقضي يصنع قال الشاعر: وعليهما مسرودتان قضاهما داود أي صنعهما. وقرىء: يقصّ الحق من قص الحديث، كقوله:﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ ﴾[يوسف: ٣]، أو من قص الأثر أي اتبعه.﴿ قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي ﴾ الآية أي لو كان في قدرتي الوصول إلى ما تستعجلون به من حلول العذاب لبادرت إليه ووقع الانفصال.﴿ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِٱلظَّالِمِينَ ﴾ الظاهر أن المعنى والله أعلم بكم فوضع الظاهر المشعر بوصفهم بالظلم موضع المضمر. ومعنى أعلم بهم، أي بمجازاتهم ففيه وعيد وتهديد.﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ ﴾ الآية، لما قال تعالى: ان الحكم إلا بالله، وقال: وهو أعلم بالظالمين، بعد قوله: ما تستعجلون به، انتقل من خاص إلى عام، وهو علمه تعالى بجميع الأمور الغيبية واستعار للقدرة عليها المفاتح لما كانت سبباً للوصول إلى الشىء فاندرج في هذا العام ما استعجلوا وقوعه وغيره. والمفاتيح جمع مفتاح بكسر الميم وهي الآلة التي يفتح بها ما أغلق. قال الزهراوي: ومفتح أفصح من مفتاح. وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله إن الله عنده علم الساعة "، إلى آخر السورة.﴿ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ ﴾ حصر أنه لا يعلم تلك المفاتح ولا يطلع عليها غيره تعالى، ولقد يظهر من هؤلاء المنتسبة إلى التصوف أشياء من ادعاء علم المغيبات، والاطلاع على علم عواقب أتباعهم، وأنهم معهم في الجنة مقطوع لهم ولأتباعهم بها يخبرون بذلك على رؤوس الاشهاد ولا ينكر ذلك أحد، هذا مع خلوهم عن العلوم الشرعية، يوهمون أنهم يعلمون الغيب. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: ومن زعم أن محمداً يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول:﴿ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وٱلأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ ﴾[النمل: ٦٥].
وقد كثرت هذه الدعاوي والخرافات في ديار مصر وقام بها ناس صبيان العقول يسمون بالشيوخ.﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ ﴾ لما كان ذكره تعالى مفاتح الغيب أمراً معقولاً أخبر تعالى باستئثاره بعلمه واختصاصه به ذكر تعلق علمه بهذا المحسوس على سبيل العموم، ثم ذكر علمه بالورقة والحبة والرطب واليابس على سبيل الخصوص، فتحصل أخباره تعالى بأنه عالم بالكليات والجزئيات مستأثر بعلمه وبما نعلمه نحن. وقدم البر لكثرة مشاهدتنا لما اشتمل عليه من المدن والقرى والمفاوز والجبال والحيوان والنبات والمعادن، أو على سبيل الترقي إلى ما هو أعظم في الجملة لأن ما فيه من أجناس الحيوانات أعجب وطوله وعرضه أعظم، وما في البحر من حيوان وجواهر وغير ذلك. وعبّر بلفظ ما التي هي لآحاد ما لا يعقل لكثرة أجناسه وأنواعه وأشكاله فشمل النوعين العاقل وغيره تغليباً لما لا يعقل. وقال سيبويه: ما مبهمة تقع على كل شيء. فظاهر كلامه أنها لا تختص بما لا يعقل. و ﴿ مِن وَرَقَةٍ ﴾ من: زائدة. وورقة: فاعل بتسقط، ويعلمها مطلقاً قبل السقوط ومعه وبعده، ويعلمها في موضع الحال من ورقة، وهي الحال من النكرة كما تقول: ما جاء أحد إلا راكباً.﴿ وَلاَ حَبَّةٍ ﴾ أتى بجزءين لطيفين: أحدهما علوي وهو سقوط ورقة من علوّ إلى أسفل، والثاني سفلي وهو اختفاء حبة في بطن الأرض.﴿ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ ﴾ الآية، هذا الاستثناء جار مجرى التوكيد لأن قوله: ولا حبة ولا رطب ولا يابس، معطوف على قوله: من ورقة، والاستثناء الأول منسحب عليها كما تقول: ما جاءني من رجل إلا أكرمته ولا امرأة، فالمعنى إلا أكرمتها، ولكنه لما طال الكلام عليها أعيد الاستثناء على سبيل التوكيد وحسنه كونه فاصلة رأس آية، والرطب واليابس وصفان معروفان والمراد العموم في المتصف بهما والكتاب المبين كناية عن علمه تعالى المحيط بجميع الأشياء.