﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ﴾ الآية. هذه الجملة معطوفة على قوله: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ﴾، عطف جملة فعلية على إسمية. قال ابن عطية: ووهبنا، عطف على آتيناها. " انتهى ". لا يصح هذا لأن آتيناها لها موضع من الإِعراب، إما خبر، وإما حال، ولا يصح في ووهبنا شىء منهما وذكر ما منّ عليه به من هبته له هذا النبي الذي تفرعت منه أنبياء بني إسرائيل.﴿ كُلاًّ هَدَيْنَا ﴾ أي كل واحد من إسحاق ويعقوب هدينا وفي قوله: من قبل تنبيهاً على قدمه، وفي ذكره لطيفة وهو أن نوحاً عليه السلام عبدت الأصنام في زمانه وقومه أول قوم عبدوا الأصنام ووحّد هو الله تعالى، وكذلك إبراهيم عبدت الأصنام في زمانه ووحد هو الله تعالى ودعا برفضها.﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ ﴾ الضمير عائد على نوح لأنه أقرب مذكور ولأن في المذكورين لوطاً، وليس هو من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه فهو من ذرية نوح عليه السلام.﴿ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ ﴾ وقدم داود لتقدمه في الزمان، ولكونه صاحب كتاب، ولكونه أصلاً لسليمان وهو فرعه.﴿ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ ﴾ قرنهما لاشتراكهما في الامتحان أيوب بالبلاء في جسده ونبذ قومه له، ويوسف بالسجن وتغريبه عن أهله، وفي مآلهما إلا السلامة والعافية. وقدم أيوب لأنه أعظم في الامتحان.﴿ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ﴾ قرنهما لاشتراكهما في الاخوة. وقدم موسى عليه السلام لأنه كليم الله وصاحب كتاب وهو التوراة والمعجزات التي ذكرها الله تعالى في كتابه.﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ أي مثل ذلك الجزاء من إيتاء الحجة وهبة الأولاد الخيّرين نجزي من كان محسناً في عبادتنا مراقباً في أعماله لنا.﴿ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ ﴾ قرن بينهم لاشتراكهم في الزهد الشديد والإِعراض عن الدنيا. وبدأ بزكريا ويحيى لسبقهما عيسى في الزمان، وقدم بزكريا لأنه والد يحيى فهو أصل ويحيى فرع. وقدم عيسى لأنه صاحب كتاب ودائرة متسعة. وتقدم ذكر أنساب هؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إلا الياس، وهو الياس بن بشير بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران، وقيل: الياس هو الخضر عليه السلام. وفي ذكر عيسى عليه السلام هنا دليل على أن ابن البنت داخل في الذرية وبهذه الآية استدل على دخوله في الوقف على الذرية، وسواء أكان الضمير في ومن ذريته عائداً على نوح أو على إبراهيم فنقول الحسن والحسين ابنا فاطمة رضي الله عنهم هما من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذه الآية استدل أبو جعفر الباقر ويحيى بن يعمر على ذلك، وكان الحجاج بن يوسف طلب منهما الدليل على ذلك إذ كان هو ينكر ذلك فسكت في قصتين جرتا لهما معه.﴿ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾ لا يختص كل بهؤلاء الأربعة بل يعم جميع من سبق ذكره.﴿ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾ هو ابن إبراهيم من هاجر وهو أكبر ولده. وقيل: هو نبي من بني إسرائيل وكان زمان طالوت وهو المعني بقوله:﴿ ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾[البقرة: ٢٤٦].
﴿ وَٱلْيَسَعَ ﴾ قرأ الجمهور: واليَسع، كأنّ أل دخلت على مضارع وَسِعَ يسَعَ فقيل: هو عربي دخلت أل عليه. وقرىء: والليسع على وزن فيعل كضيغم، والصحيح أنه في القراءتين أعجمي لزمته أل في القراءتين. وقال ابن مالك: ما قارنت ألْ نقله كالمسمى بالنضر أو بالنعمان أو ارتجاله كاليسع والسمَؤل فإِن الأَغلب ثبوت ألْ فيه، وهذه الأسماء لا تنصرف للعلمية والعجمة الا اليسع فإِنه منصرف يجر بالكسرة ولا ينون وإلا لوطا ونوحاً فإِنهما مصروفان لخفة البناء وسكون وسطهما وإن كانت العلتان موجودتين فيهما وهما العلمية والعجمة الشخصية.﴿ وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَالَمِينَ ﴾ فيه دلالة على أن الأنبياء أفضل من الأولياء. فالبعض من ينتمي إلى التصوف في زعمهم أن الولي أفضل من النبي كمحمد بن العربي الحاتمي صاحب كتاب الفصوص، وكتاب الفتوح المكية، وعنقا مغرب وغيرهما من كتب الضلال وفيه دلالة على أن الأنبياء أفضل من الملائكة لعموم العالمين وهم الموجودون سوى الله تعالى فيندرج في العموم الملائكة.﴿ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾ المجرور في موضع نصب. قال الزمخشري: عطفاً على كلا بمعنى وفضلنا بعض آبائهم فمن للتبعيض، والمراد من آمن منهم نبياً كان أو غير نبي.﴿ وَٱجْتَبَيْنَاهُمْ ﴾ عطف على فضلنا أي اصطفيناهم وكرر الهداية على سبيل التوضيح والتوكيد.﴿ ذٰلِكَ ﴾ إشارة إلى الهدى السابق. وفيه دليل على أن الهدى بمشيئة الله تعالى.﴿ وَلَوْ أَشْرَكُواْ ﴾ فرض تقديري لا يقع من الأنبياء عليهم السلام كقوله تعالى:﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾[الزمر: ٦٥].
والحبوط مترتب على مستحيل إذ الأنبياء معصومون فلا يمكن أن يقع منهم إشراك البتة.﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ إشارة إلى من سبق ذكره فذكر ما فضلوا به. و ﴿ ٱلْكِتَابَ ﴾ جنس للكتب الإِلهية كصحف إبراهيم والتوراة والإِنجيل والزبور.﴿ وَٱلْحُكْمَ ﴾ الحكمة، أو الحكم بين الخصوم.﴿ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا ﴾ الضمير في بها عائد على النبوة، أو على الكتاب والحكم والنبوة. والإِشارة بهؤلاء إلى كفار قريش وكل كافر في ذلك العصر، قاله ابن عباس. ومعنى: ﴿ وَكَّلْنَا بِهَا ﴾ أي أرصدنا للإِيمان بها. والتوكيل هنا استعارة للتوفيق للإِيمان بها والقيام بحقوقها والقوم الموكلون بها هم مؤمنوا أهل الكتاب من أهل المدينة، قاله ابن عباس.﴿ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ ﴾ الإِشارة بأولئك إلى المشار إليهم بأولئك الأولى وهم الأنبياء السابق ذكرهم وأمره تعالى أن يقتديَ بهداهم. والهداية السابقة هي توحيد الله تعالى وتقديسه عن الشريك، فالمعنى فبطريقتهم في الإِيمان بالله وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع، فإِنها مختلفة فلا يمكن أن يؤمر بالاقتداء بالمختلفة وهي هدى ما لم تنسخ، فإِذا نسخت لم تبق هدى بخلاف أصول الدين فإِنها كلها هدى أبداً.﴿ فَبِهُدَاهُمُ ﴾ متعلق باقتده. وقرىء اقده بالهاء الساكنة وصلاً ووقفاً، وهي هاء السكت أجروها وصلاً مجراها وقفاً. وقرىء: بحذفها وصلاً وإثباتها وقفاً وهذا هو القياس. وقرىء: اقتده باختلاس الكسرة في الهاء وصلاً وسكونها وقفاً. وقرىء: بكسرها ووصلها بياء وصلاً، وسكونها وقفاً، وتؤول على أنها ضمير المصدر لا هاء السكت.﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾ أي على الدعاء إلى القرآن وهو الهدى والصراط المستقيم. أجراً أي أجرة، أتكثر بها وأخص بها أن القرآن إلا ذكرى أي موعظة لجميع العالمين.